((الثمن الذي يدفعه الطيبون نظير لامبالاتهم بالشأن العام,هو أن يحكمهم الاشرار)) هكذا قال سقراط قبل اكثر من ألفي عام,ودفع حياته ثمنا لها,فقد تم إعدامه بالسم في أثينا في العام 469 قبل الميلاد بتهمة التحريض وتخريب عقول شباب اثينا,وقد قيل في حقه أنه انزل الفلسفة من السماء الي الأرض,تعبيرا عن دوره الخالد في نشر الوعي والتنوير,فهو معلم أفلاطون والذي تتلمذ علي يده إرسطو,فهو بذلك أب الحكمة بحق. لقد كنت اعجب قبل أعوام خلت ,وأنا أري مئات الاوربيين العاديين,يتظاهرون في الطرقات في عز الشتاء, والجليد يتساقط وينهمر من حولهم ومن فوق رؤءسهم,أحتجاجا علي القتل والظلم والقهر الذي تعرض له أهل دارفور,كنت حقا أعجب وأقول في نفسي سرا - مثل الكثيرين- لماذا يفعلون هذا, ويخرجون رغم ذلك الطقس السئ الذي لايغري ابدا بالخروج من المنزل الدافئ الوثير, ورغم مشاكلهم وهمومهم الخاصة ,ورغم الاف الكيلومترات التي تفصلهم عن السودان,ماالذي يجبرهم علي هذا؟؟ وكنت أقول ماذا سيضيرهم لو مات ثلاثمائة ألف او مليون من أهل دارفور أو مسح السودان نفسه من خريطة الوجود؟!! هل كانت الحياة ستتوقف عندهم,ام هل ستتوقف الارض عن الدوران؟!! كان بإمكانهم البقاء في منازلهم والاكتفاء بمشاهدة الاخبار علي قنوات التلفزيون أمام المدفأة , وإبداء الاسف والتعاطف فقط - كما كنا نفعل نحن في الخرطوم- ,ثم الذهاب للمرقص أو السينما أو العمل ومواصلة حياتهم,ولكن أخرجهم حسهم الانساني السليم وضميرهم المستيقظ الذي لايعترف بالحدود الجغرافية للظلم,وليس للتآمر ضد السودان وضد الاسلام كما كان يردد نظام الحكم الاسلامي في الخرطوم ويصدقه بعض الساذجين ببلاهة مضحكة,ولكن برغم اندهاشي من تفاعلهم الحي هذا مع اهل دارفور,كنت أندهش أكثر من أهل الخرطوم ومدني وبورتسودان ودنقلا وغيرها من المدن والتي لايفصلها عن دارفور سوي مئات الكيلومترات فقط,فالحياة فيها هي التي تسير بصورة طبيعية والناس فيها هم من يذهبون للعمل صباحا وللحدائق ولحفلات الافراح مساءا ويواصلون حياتهم بعادية,كأن الذي يجري أمامهم يحدث في بورما او افغانستان او الصومال.ففي كل سنوات الحرب في دارفور وفي عز أشتعالها,لم تخرج مظاهرات مثيلة بمظاهرات الغربيين تندد بالقتل والظلم الذي حل ومازال يحل باهل دارفور,بل أحيانا كانت تخرج مظاهرات بعد صلاة الجمعة تندد بالقمع الوحشي الاسرائيلي لسكان غزة,فياللمفارقة!!! كنت اعجب لبرودنا ولامبالاتنا واكتفائنا بالتفرج,إلي ان خرج الناس في المظاهرات الاخيرة التي أندلعت بعد رفع الدعم عن المحروقات والقمح,وأججها القتل المباشر لابنائهم امام اعينهم والذي كان بحق صادما لهم وللجميع بقوة. الان فقط أدرك الناس ان ذات الدم البارد الذي قتل ابناءهم ,هو نفسه الذي قتل أبناء غيرهم في دارفور وجبال النوبة و بقية مناطق السودان الكبير. الان فقط ادرك الناس ان الدور قد جاء عليهم, فقد مس طرف السوط ظهرهم الذي كان يتكئ ذات يوم علي مقعد مريح امام شاشة التلفاز يتابع أخبار دارفور من القنوات غير السودانية,ويهز كتفيه لامباليا. تري أهو عقاب رباني علي تجاهلهم لصرخات ثكالي دارفور والاخرين الذين قتل ابناءهم امام أعينهم ,فكما تدين تدان؟؟ عملت سابقا بالصحة النفسية بالسودان وشاهدت بعيني بعض الناجين من ضحايا دارفور الذين احرقت قراهم أمام اعينهم وأهلهم فيها,رأيتهم كيف صارو حطام بشر وبقايا أدميين,اصيبوا باضطراب مابعد الصدمة وبالاكتئاب الحاد,فقدوا القدرة علي الكلام ,مذهولين من هول ماشاهدو,غير مصدقين ,لايأكلون ولايشربون ولايتوقفون عن البكاء والرثاء علي أنفسهم واهليهم.إحساسهم الهائل بالعجز والاحباط وأنهم تركو لوحدهم في هذا الوطن غير المبالي بهم,أفقدهم كل أمل بالاستمرار في الحياة.كان من الصعب علاجهم بعدة أقراص مسكنة وكلمات مواساة جوفاء,كان لابد من علاجهم مؤقتا بالصدمات الكهربائية, لمنعهم من الانتحارأو الموت وللمحافظة علي إستمرارية حياتهم,لكن جرح نفوسهم العميق,لايمكن علاجه إلا بالقصاص العادل من المجرمين ,مصداقا لقوله تعالي:(ولكم في القصاص حياة ياأولي الاباب). إن كانت هناك حسنة واحدة لهذه المظاهرات الخرطومية الاخيرة ,فهي قد اعادت الحس الانساني لضميرنا الوطني الذي بدأ في الاستيقاظ,وأما من لم يزل نائما,فنقول له كما قال الشاعر السوري الراحل,نزار قباني في إحدي قصائده:متي تفهم؟متي ياسيدي تفهم؟كأن جميع من صلبو علي الاشجار ليسو من سلالاتك,,,,تنام كأنما المأساة ليست بعض مأساتك,,,,,متي تفهم؟؟متي يستيقظ الانسان في ذاتك؟!! عماد عثمان – طبيب بالصحة النفسية/السعودية [email protected]