ضاقت به الديار , وأضنته الأيام بشظفها ، فتسربل بسراب خياله فأضحى لا يرى من الأفق ألا أدمعا تندلق من محجر الشمس ساعة الغروب ، ولا يسمع من الأصوات إلا فحيح أفاعي الظلام التي تسد صداها أوتار الآفاق البعيدة ، أزكمت الشجون أنفه فلا يشتم من الروائح سوى عبق البؤس والشقاء التي تنبعث من تلك الأعشاش المبعثرة كتبعثر حظوظه ، كانت ساعات عمره تتسلل لواذا عبر منحنيات الزمن ، لتخترق جدران جلده المهترئ لتستقر بين الحنايا والوجدان محدثة آثارا ملموسة في التراكيبية الجسدية وتطفح لتلامس السطح في صورة دراماتيكية تهز ا لعواطف وتستثير الوجدان ،فما باتت الأيام تهديه إلي سبل الأمل ، ولا هجعة الليل تسكن من آلامه ، غشيت رأسه عجاجة الهموم ، فأضطرب محياه وبدت عليه منعرجات كنتورية ذات دلالة على الأبعاد الشاسعة التي تفصل بين تلك العوالم المتعددة التي تعشعش في أغوار نفسه ، كاد الصراع المشتعل بين أضالعه حول حتمية القدر وحجية العقل ان ينجرف به إلي مزبلة الإلحاد لولا المسحة الدينية التي تشبع بها وأكتسبها من بيئته العائلية التي هي ليست بأقل ضنكا منه. لم يتبق له من ذاكرة الطفولة سوى صورة صغيرة تكاد تندرس معالمها بفعل معاول الزمن التي حفرت على ذاكرته الغضة البريئة فأزالت نقوشها الكيوتونية .. جلس على حافة خواطره وهو يسترجع قصاصات ذاكرته المتموجة ، عله يجد مرسئ لسفينة وجدانه التي تتخبط الدياجير في لجاج أعماق نفسه ،فبينما هو في هيجانه العاطفي بين منعرجات خياله ومنعطفات تصوراته لمح صورة يتيمة قد قاومت كل عوامل الهدم ، وظلت متشبثة بجدار ذاكرته كتشبث الطعم بخيط العنكبوت ، تأمل مليا في تلك الصورة وتفرس في ملامحها بإستفاضة تنم عن فضول جم عسى ولعله يحظى بفرصة لتجميع أبعادها المبعثرة بين حنايا الزمان , أسترخى قليلا وابتعث مخيلته سفيرا يشق العباب متجولا بين أصقاع العقل والنفس والروح .أطلق زفرة ثم أردفها بأخرى وهو يمتشق حسام ذاكرته للقضاء على آفة النسيان جيْش كل إمكانيات خياله لإلقاء القبض على تلك الصورة الآبقة التي تمردت على سيدته الذاكرة ،كلما أقترب منها أنسحبت بسلاسة مذهلة متحاشية أياه .ظل يعاود الكرة إلي ان أرهقه الضنى فخر مغشيا عليه ،مرت الساعات وهو في غفوة عميقة ، لم يفق منها إلا بعد أن اطل الصبح بطلعته البهية ، وتسرب تباشير الفجر الجميل فتخلل تلك المسامات المثخنة بجراحات الماضي ، وتسلل خيوط الفجر مصحوبة بعبق النسيم العليل إلي الأعماق لتداعب الوجدان ، فأستثيرت تلكم الذاكرة المخملية ، ونشطت من عقالها وأتت تلك الصورة الآبقة طائعة مختارة متجسدة بأبعادها ومعانيها مختزلة أبعاد الزمان والمكان ، فأمسك تلك الصورة بكلتا يدية مخافة ان تتفلت منه مرة أخري ، فما انتبه إلا و المؤذن ينادي لصلاة الفجرهو يقبض على جانب من قلبه الوكيع وعلى الجانب الآخر كان المذياع يردد سوداني الجوة وجداني بريدو، فقام متثاقلا لأداء صلاة الصبح. [email protected]