بقلم: نيكولاس كوليش ملكال، جنوب السودان: وقع اختيار الفنان برادلي كمبل على المياه لأنها ترمز للحياة والتجدد وإعادة الميلاد وهو يضع التصميم الخاص بالنصب التذكاري لمركز التجاري العالمي في بروكلين بالولايات المتحدةالأمريكية. وبعد مرور عقد من الزمان على ذلك وعلى بعد نصف الكرة الأرضية فإن المياه التي قدمها عمال الإغاثة لكمبل، اصبح قسيساً اليوم، ولأسرته والأطفال الأيتام العشرة الذين تقوم على رعايتهم تعني الفرق بين الحياة والموت. وجد نحو22 ألف شخص ينتمون لمختلف بقاع العالم، فرنسا ونيوزيلاند وأثيوبيا وجنوب إفريقيا، أنفسهم في معسكر أُقيم في داخل مقر لقاعدة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة تقع خارج مدينة ملكالالجنوبية وما يربط بينهم هو الجوع والعطش والرغبة في الذهاب لأي مكان آخر آمن خوفاً من الجنود الحكوميين والمتمردين الذين يتقاتلون خارج القاعدة. ويقول هوث غاتكوث، 27 عاماً، :"نرجو من المنظمات الإنسانية نقلنا لأي مكان آخر للنجاة بأرواحنا". وكان غاتكوث قد اختبأ في سيارة رياضية بيضاء اللون متعطلة قبل أن يلجأ لهذا المعسكر. وقال إن الناس بدأوا في الشجار وأنه متخوف من أن يتطور الأمر أكثر من ذلك إذا لم تتحسن الأوضاع في المعسكر، قائلاً: " بعد يومين من الآن سوف يبدأ الناس في القتال داخل هذا المعسكر". انحدر جنوب السودان نحو العنف قبل أسبوعين من الآن وذلك عندما تحول الصراع السياسي في العاصمة إلى صراع عرقي دامي حيث وردت تقارير تفيد بموت الآلاف في مختلف أنحاء البلاد. وبعد يومين من القتال خلال الأسبوع الماضي، حيث أدت طلقات طائشة لإصابة البعض حتى داخل مقر الأممالمتحدة، تمكنت القوات الحكومية من استعادة السيطرة على مدينة ملكال. ورغم ذلك مازال رياك مشار، النائب السابق للرئيس، يصر على عدم الجلوس لعقد مفاوضات سلام مع الرئيس سلفاكير الذي اتهم مشار بمحاولة قلب نظام الحكم. ولجأ البعض من المقيمين في المعسكر في يوم الأحد للجلوس داخل حاويات للنقل البحري ترتفع فيها درجة الحرارة لعلها تمنحهم بعض الحماية من شمس منتصف النهار الملتهبة. وقال سامي تسقاي، 20 عماً، من أرتيريا، :" أخذ الجنود كل أموالنا وليس لدينا الآن مياه للشرب أو الطعام ولا حتى مراحيض". وتفوح في المكان رائحة كريهة ناتجة عن أكوام الفضلات البشرية المنتشرة تحت أشعة الشمس الحارقة ويتخوف عمال الإغاثة من احتمال ظهور بعض الأمراض المعدية مثل الكوليرا. ويبدو كما أن هذه المصائب لا تكفي وحدها، إذ يحذر النازحون من سكان ملكال من وجود كميات كبيرة من الأفاعي. وفي مدينة بور الاستراتيجية الواقعة على بعد 230 ميل جنوبملكال تسود مخاوف من تجدد القتال بعد مشاهدة طابور طويل من المقاتلين الشباب يقترب من المدينة، حيث يقول جوزف كونتريراس، المتحدث الرسمي باسم بعثة الأممالمتحدة في جنوب السودان، إن طائرة استطلاع قد صورت هذه المجموعة المسلحة من الشباب وهي في طريقها نحو بور. وأضاف أن ظهورهم على الساحة: "شكل عنصر لم يكن في الحسبان في الوضع الأمني السائد حالياً ويعرض المدنيين لمخاطر أكبر". ووضع تنامي المخاطر كمبل، 44 عاماً، وزوجته كيم أمام خياريين أخلاهما مرُ، فباعتبارهم مواطنان أمريكيان لديهما وأبنتيهما خيار ركوب طائرة الإجلاء التي من المتوقع وصولها في وقت متأخر من اليوم ولكنهما لا يعلمان هل يمكن لهما اصطحاب الطفلين اليتيمين الذين يقومان برعايتهما، 6 سنوات و7 سنوات. وقالت السيدة كامبل، 44 عماً، إنهم سيبقون إذا لم يستطيعوا اصطحاب الطفلين معهم، "عندما تسمع أو تقرأ عن مثل هذه المآسي فأعلم إنها تقع دائماً لأشخاص حقيقيون مثلنا في مكان ما من العالم". وتعيش أسرة كمبل في وضع أفضل مقارنة بمعظم من هم موجودون في المعسكر المؤقت، إذا ينامون مع 24 شخصاً آخرين في الغرفة المخصصة كنادي للترفيه ويلجأ أصغر الطفال للنوم على طاولة لعبة البليارد. وكان الطعام شحيحاً، بل وبدأ في النفاد حتى لدى موظفي الأممالمتحدة، فلذلك لجأوا لتنظيم صرف حبوب الكاجو والتفاح الجاف وقطع لحم الخنزير الجافة التي أحضروها معهم من ملجأ الأيتام في ملكال. إنها أيام تختلف كثيراً عن تلك التي عاشها كمبل الفنان قبل عقد من الزمان في ويليامسبورغ في بروكيلن حين كان يتمتع بالنجاح الذي حققه بعد أن تم اختيار التصميم الذي تقدم به مع شريكه ماتياس نيومان تحت عنوان "لور ووترز" ضمن أفضل عشرة أعمال مقدمة لمسابقة تصميم النصب التذكاري لمركز التجارة العالمي التي شهدت مشاركات من مختلف أنحاء العالم. ولكنه اعتزل الفن وأصبح اليوم قسيساَ وحفت المهمة التي يقوم بها، الكثير من المخاطر، حتى في الظروف الطبيعية، وهي العمل في مركز للأيتام بجنوب السودان. ففي خلال الأسبوع الماضي اخترقت طلقة نافذة غرفة نوم الأسرة وقطعت طلقة أخرى فرعاً من شجرة الليمون الموجودة في حديقة المنزل فلجأوا مع الأطفال الأيتام للاختباء تحت الأسرة. ويقول كمبل وهوم يهم بالاستعداد لأداء صلاة الأحد في مكان مخصص كمقهى ومشرب في الهواء الطلق يعرف باسم "هارد روك كافية ملكال" كان يتناول فيه موظفو الأممالمتحدة المشروبات الكحولية: "هذه أول مرة أقوم فيها بإلقاء خطبة الصلاة وأنا أرتدى تي شيرت وبدون الاغتسال لمدة سبعة أيام". ويلجأ أفراد أسرة كمبل للحفاظ على روحهم المعنوية العالية بالصلاة والتركيز على رعاية الأطفال الأيتام بالملجأ الذين يقولون أنهم تعرضوا للكثير من المآسي خلال عمرهم القصير في هذه الحياة، حيث بُترت يد أحدهم نقوري أكيم، 17 عاماً، عند تعرضه لحادث ماس كهربائي عندما كان يعيش كمتشرد في الشوارع. "لا أعلم ما الذي كنا سنقوم به إذا لم نقم بما نحاول القيام به الآن من أجل رعاية لهؤلاء الأطفال، وأضاف مقتبساً من الإنجيل: "هنالك دائماً نور يلمع وسط الظلام والظلام لن يقهره أبداً". نقلا عن: ذا نيويورك تايمز [email protected]