تلوح في الأفق نُذر قوية لتجدد التوترات، أو حتى اندلاع حرب أهلية، في جنوب السودان. وأي حرب أهلية تدور هنا من المؤكد أن تُجر إليها السودان، وهي الدولة التي حصل جنوب السودان على استقلاله منها في عام 2011. وبدوره وجه قائد المتمردين الجديد ريك مشار، النائب السابق لرئيس جنوب السودان، تحذيرات تفيد بسعيه لعقد اتفاق منفصل لتصدير بترول جنوب السودان عبر السودان، وهذا ما يجعلنا نعتقد أن مشار يسعى لعقد نوع من التحالف مع السودان ضد القوات الموالية للرئيس سلفاكير. إن التركيبة الجيوسياسية لهذا الصراع، الذي مازال في طور التخلق، تًشير إلى أنه واحداً من أكثر الصراعات تعقيداً وفي منطقة معقدة جداً إذ أنه ينطوي على خلافات عرقية ودينية واقتصادية إضافة لموردي النفط والغاز. وفرض رياك مشار والمتمردون التابعون له سيطرتهم على المناطق الغنية بالنفط في ولاية الوحدة وقال مشار بشكل واضح، في لقاء أجرته معه صحيفة السودان تريبيون، إنه يعمل على بيع البترول للسودان والاحتفاظ بعائداته لنفسه. وهنالك أيضاً عامل آخر لا يبعث على الارتياح قد ظهر، وهو الجنرال السابق في الجيش بيتر قاديت، وهو أيضاً قائد جيش تحرير جنوب السودان، وهي مجموعة شبه عسكرية عارضت حكومة جنوب السودان منذ عام 2011 فقط لرفضها الانضمام للجيش الحكومي، ويقال أن قاديت يُقوم وبشكل أساسي بتدريب المتمردين من أثنية النوير في ولاية الوحدة الواقعة شمال البلاد. وهذا ما أثار الشكوك حول أن الخرطوم، وخلافاً لما يبدو ظاهراً، قد يكون لها يد في الصراع الدائر في جنوب السودان فهي حاولت ولعدة شهور استعادة سيطرتها على حقول النفط الواقعة في ولاية الوحدة التي سلمتها للجنوب وفقاً لاتفاقيات السلامة الموقعة في نيروبي في عام 2005 وتم التأكيد على ذلك في اتفاقية التعاون بين السودان وجنوب السودان في عام 2012. وكان هنالك دائماً توتر بين الجانين بسبب خطط جنوب السودان لبناء خطين لتصدير نفطه، الأول عبر كينيا والثاني عبر أثيوبيا، لتفادي تصديره عبر السودان، وهو ما قد يكون قد دعا حكومة السودان للدفع باتجاه التمرد الجاري في جنوب السودان. ولهذه الفرضية سابقاتها، فهي ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها ريك مشار للتحالف مع السودان بهدف السيطرة على جنوب السودان وتلقى الدعم في حربه ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان الحزب الحاكم في الجنوب في الوقت الحالي. ويفرض المتمردون الآن سيطرتهم على آبار البترول في ولاية الوحدة وسيبزل جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان أقصى جهوده لاستعادة سيطرته عليها. وتركز القتال حتى الآن في الشمال بينما بقي الوضع في الجنوب أكثر هدوءً ولجأ مئات الآلاف من المدنيين للهروب من القتال الدائر هناك. وهنالك أيضاً بعض الإشاعات الدائرة حول تورط لاعبين الإقليميين في هذا الصراع، وذلك خلافاً لإنكار أوغندا أنها أرسلت جنودها لدعم الحركة الشعبية وقالت إنهم دخلوا جنوب السودان بهدف حماية المدنيين ومن بينهم الكثير من الأوغنديين. وهذا بالطبع لن يُقنع أي من شخص يتذكر أنه في الماضي، خلال صراع جنوب السودان ضد الخرطوم قبل الاستقلال، تدخلت أوغندا لصالح الحركة الشعبية. والآن يوجد تعاون عسكري بين الرئيس الأوغندي يوري موسفيني وسلفكاير وهو ما قد يبين وجود تدخل عسكري يوغندي بصورة مباشرة. وبناء على كل ذلك فإن هنالك مخاطر كبيرة من أن تؤدي الحرب الأهلية الدائرة في جنوب السودان لتدخل دول أخرى، حيث من الواضح أن السودان وأوغندا قد تدخلتا بالفعل فيها. وحتى لو تم تفادي صراع إقليمي أوسع خلال العام القادم، 2014، فإن المحاولة التي قام بها مشار للانقلاب على الحكم، وبغض النظر عن أي جوانب أخرى، قد عرت ضعف المؤسسات وهشاشة التوازن الاثني في بلد يبدو أنه فقد كل معالم روح الوحدة التي مكنته من نيل الاستقلال من الخرطوم. فالصراع حول السلطة قد أفسد الوحدة، إذ أن كل واحدة من القبائل تصارع لنيل حظها من السلطة على المستوى المحلي والقومي وحتى العالمي، على سبيل المثال اتفاقيات مشار النفطية المزمعة مع الخرطوم، وأدت ذلك لتدهور الوضع الانساني في البلاد، السيء أصلاً، ولتحويل صرف الموارد المادية والبشرية بعيداً عن جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي البلاد في أمس الحاجة لها. وقد بدأت التأثيرات السيئة لهذا الصراع في الانتشار عبر إثارة عدم الاستقرار في منطقة وسط وشرق إفريقيا. التأثيرات الإقليمية: صبغت التوترات العرقية جنوب السودان منذ نيله للاستقلال ويتضح هذا في الصراع من أجل السلطة بين المجموعتين العرقيتين الرئيسيتين فيه وهي الدينكا (15% من السكان) والنوير (5%) واللتان كانتا متحدتان في صراعهما مع الخرطوم قبل أن ينحدران تدريجياً في صراع داخلي من أجل السلطة. ففي واقع الأمر، وبدءاً من عام 2011، أصبح الدينكا أكثير أنانية في ممارساتهم السياسية فهم قد بسطوا سيطرتهم على معظم الوزارات الهامة وقاموا بإدارة عائدات النفط بصورة "شخصية" لصالح مجموعتهم العرقية وتهميش النوير وغيرهم من الأقليات العرقية في البلاد. وهذا الاتجاه يتضح من التوجهات السلطوية التي أصبحت تنمو تدريجياً لدى الرئيس سلفاكير، الذي ينتمي للدينكا، حيث قام بإبعاد ممثلي كل المجموعات العرقية الأخرى من الوظائف العامة وأجبر العديد من المسؤولين وضباط الجيش منهم، بما فيهم ريك مشار وبيتر قاديت، للتقدم باستقالاتهم من الوظائف التي كانوا يشغلونها. وشكل مشار وقاديت عنصران مهمان في تعبئة النوير حيث قادا الصراع ضد ما يصفانه ب"دولة الدينكا". ويتصارع الدينكا والنوير من أجل السيطرة على موارد جنوب السودان، من ملكية عائدات النفط إلى حقوق استخدام الأراضي للرعي. وبدورهم يشترك النوير في صراعات مع قبائل أخرى في استراتيجية "فرق تسُد" المستفيد الوحيد منها هو الدينكا في جوبا. ولكن باندلاع حرب أهلية شاملة وذهاب عائدات النفط للنوير في الشمال، وبمشاركة الخرطوم في ذلك، فإن الحكومة المركزية في جوبا قد جًردت من قدراتها لتقديم حتى أقل المساعدات لآلاف المدنيين مما دفع لهروبهم كلاجئين نحو دول الجوار ووقوع كارثة إنسانية. ومن الطبيعي أن يكون لمثل هذه الهجرة تبعات على إثارة عدم الاستقرار في دول، هي في الأصل تعاني من هشاشة الأوضاع فيها، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، وبصورة أقل أثيوبيا. ليس ذلك فقط، فإن الكنغو يعاني من حالة عدم الاستقرار التي أدى لها الانقلاب الذي شهدته في عام 2013 وأدى لظهور العديد من المليشيات القبلية. وتساعد الانقلابات العسكرية والانقسامات العرقية والدينية التي حدثت في مالي خلال عام 2012، فضلا عن حالة الضعف التي يعاني منها الكونغووجنوب السودان، على انتشار أنشطة المجموعات الإجرامية العاملة في مجال تهريب الأسلحة والمعادن وحتى البشر وغيرها من الأنشطة المرتبطة بذلك. وهذه هي عين العوامل التي تساعد على نمو ظاهرة الإرهاب العالمي مثل جماعة القاعدة التي وجدت بالفعل أرضاً خصبة لها في الصومال. وبالنسبة للسودان فإن اندفاع هذه الكميات الكبيرة من المتمردين نحو أراضيه قد تزيد من تفاقم المشاكل الداخلية التي يعاني منها وتزيد من ضعف حكومة حسن البشير، المطلوب من قبل محكمة الجنايات الدولية، في الجزء الجنوبي من البلاد. ومنذ استقلاله عن بريطانيا في عام 1956 عاش السودان سنوات قليلة جداً بدون وجود حرب وارتبطت هذه الحروب دائماً بمناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي. وفي عام 2003 أدت قضية دارفور لاندلاع صراع واسع نتج عنه وفاة نحو 400 ألف شخص ولجوء أكثر من 2 مليون. جنوب السودان هو الآن دولة مستقلة، ويبقى السؤال هو كيف ستؤثر هذه الدولة على مجمل التوزان الإقليمي في المنطقة؟ Geopoliticalmonitor.com