ثلة في ركب يضربون في وهاد المجد ونجوعه، يعطّشون أكباد النوق النوبية، وحاديهم نجماً بازغاً، وبالنجم هم يهتدون، ما لانت عزيمتهم، وكيف تلين ؟؟ وحاديهم نجم السعد وبه يهتدون، ولا فترت مساعيهم وكيف تفتر؟؟ وهاديهم نجم الوعد وبه يستبشرون، ولا ضعفت لهم همّة وكيف تضعف وقائدهم نجم البشارة وبه يسعدون، طائر (السمبر) الأنيق، غيبت سحب المجهول نجمهم، فزلزلت الفجيعة قلوبهم، فللفاجعة سطوة على قلوب المحبين، وألجمت الواقعة ألسنتهم وللواقعة شرخ في وجدان المريدين، باتوا في حال وأضحوا في حالٍ آخر، باتوا يستشرفون على ضوء نجمهم صباح الوطن المحمول على أجنحة الموهبة وكفوف الإبداع، باتوا يتنفسون لهفة على فجر الوطن الشامخ بفضل نخب العقول وصفوتها، وما زالوا بالنجم هم يهتدون، باتوا يقبضون شمس الأحلام المشروعة بيمين الأمل والتفاؤل، ويمسكون قمر الإنجاز بيسار الثقة بالذات والشجاعة والإقدام، وكيف لا ؟ وبنجم السعد هم يهتدون. التحفوا القيم وتوسّدوا الفضائل وتدثروا المحبة والوئام، والعزم ماضٍ والقرائح تتقد والروح تضج فألاً ويقين، هكذا كانوا، وكيف لا يكونوا ؟؟ والرائد لم يكذب أهله. هكذا باتوا .. وهكذا أصبحوا غيبت سحائب المجهول نجمهم الهادي فانقلبوا يعتمرون كوفيه الحيرة، وتحتلهم مشاعر الصدمة، فانطووا على أنفسهم واجمين. المفكر الخليفة ... وثورة الربيع النفساني (1) معالم مشروع فكري ورؤية نهضوية عمر هارون الخليفة النجم الذي به اهتدينا، طائر السمبر الأنيق، ليس هو مجرد أستاذ جامعي متخصصٍ في علمٍ ما زال يزاحم العلوم ويقف على أمشاطه بغية أن يرى النور من بين أكتفاها العريضة المتطاولة، وليس هو محض نفساني عتيق المعرفة مسلوب الذات والإرادة والهوية أمام النص المستجلب والموروث العريق، بل هو مدرسة علمية تامة العناصر، وهو مفكر يمتلك رؤية مكتملة الزوايا، وهو صاحب مشروع ثوري شجاع، مشروع تقوده الرؤية ويحدوه الذهن الوقاد وتلهمه الروح الذكية، وتوجهه الأخلاق النبيلة، ويحكم أهدافه ويحدد مساره الانتماء والغيرة على وطنه السودان وعالمه العربي الكبير. عمر هارون الخليفة النجم الذي به اهتدينا، طائر السمبر الأنيق، هو مشروع فكري كبير قام على عدة أسس هي: تثوير علم النفس: تبدو معالم هذه الثورة في رؤيته الصادمة والصريحة والتي يعتقد فيها أن مشكل علم النفس في السودان والوطن العربي تتمثل في علماء النفس أنفسهم وهو يؤمن أنهم المشكلة وأنهم الحل، هم وليس بأيدي سواهم يصنع التاريخ، وهي رؤية تقوم على دلالة الآية الكريمة "(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد:11، لذا فهو ينتقد محتوى المناهج النفسية ويرى أنهم لا تلبي احتياجات البناء المهني لطالب علم النفس، وقد وثق ذلك من خلال كتابه مأزق علماء النفس في التعليم العالي، وهو في ذلك لا يقف موقف الناقد بل يطرح البدائل والحلول. الإيمان الراسخ بدور علم النفس في رسم السياسات: عمل مشروع الخليفة الفكري على تحدي كبير، تمثل في اعتقاده الجازم بأنه يجب أن يصل علم النفس إلى مرحلة اسهامه في صنع السياسات على مستوى الدولة ويكون ذلك بالثورة على حالة البؤس والانكسار التي عانى منها علم النفس تاريخياً ويبدو ذلك في مشروعاته العلمية التي خصص لها رئيس الجمهورية بالسودان جلسة استماع بحضور عدد من الوزراء والمسئولين، واستطاع من خلال عرضه المقنع أن يحصل على قرارات رئاسية أهمها إنشاء الهيئة القومية لرعاية الموهوبين، وقرار تعميم تجربة اليوسيماس، وظل مؤمناً وداعياً لتوظيف علم النفس في رسم السياسات. اجتراح آفاق تطبيقية جديدة لعم النفس: اعتقد الخليفة وعمل بجد واجتهاد من أجل فتح مجالات تطبيقية جديدة لعلم النفس تستوعب الخدمات النفسية ويظهر هذا الاهتمام في كتابه الشهير علم النفس والمخابرات، كما يظهر في إعداده ورئاسته لمؤتمر علم النفس التطبيقي في السودان في العام 2003م، وفي غير ذلك من أعمال. ويرتبط هذا المحور من مشروع الخليفة الفكري بتصوّره الشامل لعلم النفس بوصفه علماً يملك مفاتيح أبواب النهضة الشاملة، وأنه علم يمكن من خلال توظيفه أن نؤسس لرؤية استراتيجية للنهوض بالأمة تقوم على هندسة السلوك وتعديله وفق المخططات الإستراتيجية. الرهان على الموهوبين والمتفوقين: وهذا المرتكز الفكري يمثل أهم عناصر المشروع الفكري للخليفة، فهو يعتقد أن السبيل الأوحد لنهضة الامة يتمثل في حسن رعاية واستثمار ادمغتها النابهة الموهوبة، ولم يكن ذلك الاعتقاد محض ترف فكري بل طفق يؤسس لمشروعات ضخمة تعنى برعاية الموهبة أبرزها مشروع طائر السمبر، ذلك الشروع الذي اتخذ فيه طائر السمبر رمزاً لمشروعه النهضوي فهو الطائر الذي يزف مقدمه البشارة بمقدم موسم الأمطار حيث يعم الخير باخضرار الزرع ودرّ الضرع في الثقافة السودانية، ليعبر بقوة ودلالة عميقة عن إيمانه بأن الخير والنهضة ستكون على يد موهبي الوطن، وقد نجح مشروعه وقامت في السودان العديد من مدارسة الموهبة والتفوّق تقف شاهدة على مضاء عزيمة الرجل ووضوح رؤيته وواقعية مشروعه. توطين علم النفس: الدعوة إلى توطين العلوم النفسية علامة المميزة لمشروع الخليفة ، فالخليفة يعتقد أنه يجب أن ننتج معرفة نفسية تخدم قضايانا ذات الخصوصية المحلية كما يجب أن نكيّف المعرفة المستجلبة لتناسب الواقع المحلي وثقافتنا الخاصة وقد نال كتابه توطين علم النفس في العالم العربي جائزة البروفيسور عبد الستار إبراهيم لشبكة العلوم النفسية العربية 2010م. والخليفة في هذا الجانب يعتز بتراثه العربي الإسلامي في علم النفس وينتمى له بقوة ورسوخ، ولكنه في ذات الوقت ينفتح بروح شفاف على التجارب العالمية ومنجزاتها، وكأنه في ذلك يتمثل مقولة المهاتما غاندي الشهيرة " سأفتح نوافذي لكل الرياح من الجهات الأربع ولكن لن أسمح لها أن تقتلعني من جذوري ". الاتصال الجيلي والنحت في التراث: لم يكن مشروع هارون الفكري منبتاً عن أصوله التراثية سواء التراث العربي القديم أو التراث العلمي الحديث، لقد كان مشروعاً ثورياً متصلاً، واقفاً على أرضٍ صلبة، ضارباً جذوره في أعماق التاريخ العلمي، فلقد وقف هارون- رد الله غيبته - على معظم كتب التراث في المجال النفسي، وأطلع على المئات من المخطوطات العلمية القديمة محققاً ومستنبطاً ليثمر ذلك اكتشافه لأول تجربة سيكولوجية في تاريخ علم النفس التجريبي ترجع للقرن الحادي عشر الميلادي وذلك في كتاب المناظر لابن الهيثم، ليعيد ترتيب التاريخ وتصحيحه ويرد الاعتبار للتراث العلمي الإسلامي، حيث أنه من المعروف أن أول التجارب في تاريخ علم النفس التجريبي كانت في ألمانيا عام 1879م. وهكذا استمر مشروع هارون متصلاً متّوجاً لمسيرة مدرسة الخرطوم النفسية وليضع بصماته البارزة في تاريخ هذه المدرسة ليكون ثالث ثلاثة تميّزت مساهماتهم في إثراء مدرسة الخرطوم كمياً ونوعياً، وهم أساتذته البروفيسور مالك بدري رائد التأصيل الشهير والأب الروحي لعلم النفس في السودان، والبروفيسور الزبير بشير طه صاحب الكتاب الشهير علم النفس في التراث العربي الإسلامي، وقد مثل هارون تلميذا نجيباً استلهم بنبوغ باهر خصائص هذه المدرسة ليضيف إليها فصولاً مميزةً ، منفتحاً بها على كافة التجارب الإقليمية والعالمية وأهما تجربة اليابان. تلك هي قبسات من معالم المشروع الفكري للبروفيسور الغائب رده الله سالماً حاول فيها الكاتب بحكم تتلمذه على يديه وصداقته الحميمة معه أن يؤطّر ملامح تلك المسيرة متقصياً أبرزها، آملاً بذلك أن يلقى بعض الضوء على بعض جوانب ذلك المشروع وأن يفتح بذلك الباب لدراسات متعمقة في مسيرة هذا الرجل الاستثناء، وهي مسيرة جديرة بالبحث والدراسة، رده الله سالماً ليكمل هذه المسيرة العامرة بالنجاح والإنجاز. [email protected]