استقبل العالم وبفرحة وإحتفالات كبيرة اسقلال جنوب السودان قبل نحو عامين في إشارة إلى أن هذا البلد مقبل نحو مستقبل زاهر. لم يكن هذا هو جنوب السودان الذي انحدر إلى صراع أهلي خلال وقت أقل من معظم الدول الإفريقية بعد أن نالت استقلالها. ولفهم الأسباب التي تقف وراء هذا السقوط السريع، علينا أولاً النظر إلى كيف تمت الحرب الأيدولوجية التي خاضتها الحركة الشعبية لتحرير السودان ضد التفرقة العرقية والدينية التي ارتكبها عرب الشمال ضد شعب الجنوب. أولاً لم تكن الحركة الشعبية، وهي الحزب الحاكم الآن في جنوب السودان، لم تكن منظمة متجانسة فهي كانت ومازالت عبارة عن تحالف بين مجموعة من المصالح العرقية المتصارعة فيما بينها تغذيها رغبة ذاتية قوية لكل من كبار قادتها نحو الوصول للسلطة. وأدت الأنانية وحب الذات لإندلاع صراعات بين اللاعبين الكبار الذين بذل كل منهم أقصى جهد لديه للقضاء على الآخرين في سبيل السيطرة على الحركة وبالتالي مجمل الوضع. انفصل الدكتور رياك مشار، نائب الرئيس المقال أخيراً والذي يقود التمرد الحالي، عن الحركة الشعبية من قبل وكون ما يعرف بالحركة الشعبية جناح الناصر ثم قام على الفور بإجراء مفاوضات مع حكومة الرئيس البشير في الخرطوم وعلى ضوء ذلك تم تعيننه كواحد من مستشاري البشير. وعلى نفس المنوال كان الدكتور لام أكول، أول وزير خارجية لجنوب السودان بعد الاستقلال، الذي تم في السابق جذبه من قبل الخرطوم كجزء من جهودها لإضعاف الحرب التي كانت دائرة من أجل نيل الحرية. ويرجع الجميع الفضل للدكتور جون قرنق، مؤسس الحركة الشعبية، في التمكن وبمهارة عالية من إدارة كافة المجموعات المكونة للحركة وذلك باتباعه لسياسة المكر والدهاء والذراع العسكرية القوية في نفس الوقت. وتمكن من توجيه أنظار وإهتمام الناس نحو الحرب مع الشمال. وبوفاته بعد 21 يوماً فقط من بدء الفترة الانتقالية والبالغة ستة سنوات قد حُرم الجنوب من مفاوض ماهر وذكي ورجل دولة أدرك أهمية إجراء مصالحة بين كافة أطراف شعبه. وهو كان في الحقيقة الأب الروحي الذي يتمتع بالكثير من القوة والإحترام بين أفراد شعبه. وجاءت الظروف المأساوية التي وجد جنوب السودان نفسه فيها اليوم كنتاج لسياسة الفصل العنصري والحرمان التي مارستها حكومة الخرطوم ضد الجنوبيين إضافة لسنوات النضال الطويلة ضد الظلم وغياب العدالة. وشُنت الحرب بهدف تحرير شعب جنوب السودان من حقيقة إعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية من قبل أخوتهم في الشمال وكان الثمن الذي دُفع من أجل الحرية باهظاً جداً. وكان جنوب السودان يعاني من إهمال الخرطوم طيلة هذه السنوات حيث لم يتحصل معظم السكان على فرصة لتحسين حظهم في الحياة بأي شكل من الأشكال وكان عليهم العيش في فقرمدقع وظروف مأساوية جداً. وتسببت المعاناة الطويلة التي كانوا يعيشون فيه لرفع نسبة الفقر بينهم لمستويات عالية كما أنهم حصلوا على مستتوى متدني من التعليم أو معدوم على الأطلاق لذلك نظروا للاستقلال كأفضل فرصة لهم للخروج من هذه المحرقة، ولكن يبدو أنهم كانوا على خطأ. فما الذي حدث خلال هذه الوقت القصير بعد الاستقلال؟ يبدو أن صراع المصالح الشخصية التي كان يجري خلال فترة النضال من أجل الحرية قد ظهر مرة أخرى ولكن التنافس هذه المرة يغذيه صراع واضح من أجل السلطة والقوة. ولسوء الحظ فإن النزاع يندلع الآن في وقت لم تحسم فيه الخلافات الحدودية مع السودان، خصوصاً في منطقة أبي يي الغنية بالنفط وفي جنوب كردفان. إن على قادة جنوب السودان التخلي ولو قليلاً من الأنانية وحب الذات وتقديم نوع من التازلات من أجل منح السلام فرصة من أجل تنمية بلدهم لصالح شعبهم الذي عانى كثيراً من الصراعات. وأدى الصراع الدائر حالياً لتدخل منظمة الإيقاد من أجل تحقيق السلام، وهي منظمة صغيرة الحجم وضعيفة نسبياً وهي التي أستضافت المفاوضات التي أفضت لاتفاقية السلام الشاملة، ويجب أن يتمثل الهدف الآني لها في الترتيب لفرض وقف لإطلاق النار بين القوات الحكومية وقوات المتمردين. وإذا تمكنت من تحقيق هذه الهدف فإن هذا سيمنح شعب جنوب السودان فرص أخرى للتعامل مع تنقاضات هيكل السلطة والنفوذ من أجل خلق مستقبل أفضل لبلادهم. ولن تقتصر تداعيات عدم الاستقرار السائد في جنوب السودان حالياً على البلد نفسه فقط وإنما على منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي والبحيرات العظمى بأسرها. وهذا الصراع هو تطور غير محمود على كل الأصعدة وذلك لعدة أسباب. حيث بدأ جنوب السودان ومنذ استقلاله في لعب دور هام في منظمة شرق إفريقيا. ويرى المراقبون أن هذه المجموعة هي البيت الطبيعي لجنوب السودان وذلك بحكم إرتباطه التاريخي مع السودان. فمن المتوقع أن يشكل الطريق المقترح قيامه للربط بين لامو وجنوب السودات وإثيوبيا عنصر ربط بين هذه الدول وبالتالي تشجيع حركة التجارة وغيرها من الأنشطة الاقتضادية، وقد يوجه الصراع الدائر ضربة قوية للجهود الرامية لتنفيذ هذا المشروع. ومن المحزن أن هذا الصراع جاء في وقت تشهد فيه الدول المجاورة، وهي جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية، صراعات داخلية. فإن عدم الاستقرار السياسي وتدهور الوضع الأمني في هذه المناطق سوف يمنع المستثمرين والسياح من القدوم إليها. على الإيقاد ومجموعة شرق إفريقيا، بدعم من المجتمع الدولي، بذل كافة الجهود لضمان عودة الاستقرار لجنوب السودان. وللقيام بذلك يجب أن تتضمن ترتيبات ما بعد الصراع إيجاد حلول طويلة الأجل لمواجهة المشاكل الخافية بدلاً عن إيجاد صيغة فقط لتقاسم السلطة. وقد تكون عملية تقاسم السلطة قد حققت نجاحات في حالات أخرى في القارة ولكنها لن تستطيع إيجاد حلول للمصالح السياسية لقادة جنوب السودان الذين ما فتئوا يقرعون طبول الدعم القبلي لتلبية طموحاتهم الشخصية. ويجب إخضاع هؤلاء القادة لمبدأ المحاسبة على أفعالهم حيث من الصعب التصديق بأنه لم يكن هنالك ما يجري خلف الأكمة قبل التمرد الذي وقع في معسكر الجيش في جوبا الذي كان يبدو كإنسلاخ من الجيش محكم التدبير. ويمكن الاستفادة من مفاوضات الحلفاء التي تمت في المملكة المتحدة وألمانيا حيث كانت المصالح الوطنية هي ما يحدد النتائج وليس الإعتبارات الشخصية أو العرقية الضيقة. the-star [email protected]