جاء ميلاده بعملية قصيرة حيث تم نزعه من جمهورية السودان بواسطة جراحين أمريكيين. وفي استجابة لتحالف غريب جمع الأمريكيين الأفارقة والجماعات المسيحية اليمينية المتشددة قام سياسيون أمريكيون صغار يدفعهم الطموح بحث حكومتي الرئيس جورج بوش وباراك أوباما لدعم فكرة فصل جنوب السودان واجبروا حكومة الخرطوم على الدخول في اتفاقية تفضي لفترة انتقالية تبلغ عشر سنوات نحو الاستقلال. وتشكل هذا التحالف الغريب بسبب كلمتين يتم حشرهما في كل ما يكتب عن السودان: العبودية والصلب. شعر الأمريكان من أصل إفريقي بغضب شديد بسبب القصص التي رويت لهم عن الأفارقة السود الذين يتم استعبادهم وقتلهم بواسطة العرب. وجاء غضب المسيحيين المتشددين بسبب ما وصلهم من أنباء حول أن المسيحيين في جنوب السودان يتم صلبهم بواسطة المسلمين. واندفعت الحكومة الأمريكية، وبدعم من جماعات الضغط المدافعة عن حقوق الإنسان، نحو فكرة إجراء مفاوضات لوقف إطلاق النار بين حكومة الخرطوم والجيش الشعبي لتحرير السودان المتمرد قادت لعقد اتفاقية في عام 2005 هي التي أدت للاستقلال. ولا أحد يعلم هل كانت الحكومة في الخرطوم قد اعتقدت أن الاستقلال سوف لن يحدث مطلقاً أو أنهم تعرضوا لتهديدات بعواقب تمس أشخاصهم إذا هم عرقلوا مسألة ألاستقلال ولكن المهم أن جمهورية جنوب السودان قد رأت النور في يوليو 2011 لتحكمها الحركة الشعبية لتحرير السودان وهي حركة التحرير التي كانت تقاتل منذ عام 1983. إذاً وبعد حرب استمرت لنحو 50 عاماً قام رعاة البقر الأمريكيين بالهجوم على البلدة وأنقذوا الأخيار من الأشرار. بدأت هذا الحرب في عام 1962 حين قامت مجموعة من الجنود الجنوبيين بالانشقاق من الجيش الحكومي ثم توقفت في عام 1970 لتستأنف في عام 1983 عندما اندلعت حركة تمرد جديدة. وادعت الحركة الجديدة، الجبهة الشعبية لتحرير السودان، أنها تقاتل من أجل إسقاط الحكومة في الخرطوم وبناء سودان ديمقراطي ولكنها في جوهرها كانت تقاتل من أجل إنشاء دولة منفصلة في الجنوب. وتعود جذور انعدام الثقة بين الجانبين إلى القرن التاسع عشر عندما كان الشماليون المسلمون والناطقون باللغة العربية يقومون بإرسال حملات للجنوب للاسترقاق الجنوبيين ونهب أبقارهم وعندما رأت بريطانيا أنها في حاجة للسيطرة على نهر النيل من مصادره إلى الإسكندرية قامت بحكم الشمال والجنوب كبلدين منفصلين. ودائما ما يقول الشماليون: "لم يدعونا نتعرف على بعضنا البعض مطلقاً". وكان الجنوبيون لا يسافرون للشمال كثيراً إلا ضمن قوافل تجار الرقيق بينما لا يزور الشماليون الجنوب إلا لصيد المزيد من العبيد. ويطلق على الجنوبي في اللغة العامية في الشمال لفظة "عبد". وفي الثمانينات عندما قمت بزيارة السودان لأول مرة فوجئت عندما رأيت ضعف الوجود الجنوبي في الخرطوم حيث كانوا لا يعملون إلا في أعمال النظافة أو تقديم الشاي. ويقيم الجنوبيون الذين فروا من الحرب في معسكرات ضخمة تنتشر في المناطق الطرفية حول الخرطوم في خيام من جولات البلاستيك والصفيح وصناديق الكرتون. ولم تفعل الحكومة أي شيء من أجلهم بل كانت أحياناً تبعث بالشرطة لتحطيم بيوتهم العشوائية ودفعهم للتوغل أكثر في الصحراء التي تحيط بالخرطوم. وخلال زيارتي الأولى للسودان سافرت بحافلة إلى مدينة ملكال حيث تدرجياً تختلف سحنة الناس من العرب الأفارقة المسلمين الناطقين بالعربية إلى القبائل الإفريقية بلونهم الأسود الداكن وأطوالهم الفارعة. وقال لي شرطي جنوبي إن العرب مازالوا يعتبرون كل الجنوبيين عبيد ومن الأفضل أن يتم فصل الجنوب في أسرع فرصة ممكنة. ولكن الجنوب نفسه يتكون من مجموعة كبيرة من الأعراق المختلفة أكبرها هي الدينكا يليهم النوير ثم الشلك وتوجد نحو 70 ما يمكن أن يطلق عليهم مجموعات عرقية أخرى صغيرة. والجيش الشعبي لتحرير السودان الذي أنشأه جون قرنق وبعض العسكريين الجنوبيين في عام 1983 تعهدت ( على الملأ) بالعمل من أجل سودان يسوده العدل والديمقراطية، ولكن في الحقيقة إنهم كانوا يقاتلون من أجل الاستقلال عن الشمال. ولكن لماذا هذه السرية؟ كان الجيش الشعبي لتحرير السودان حركة انفصاليه في جوهرها ولكنها كانت تجد الدعم من أثيوبيا المجاورة التي لديها مشاكلها مع الحركات الانفصالية في أرتريا والتقراي وهذه الحركات بدورها كانت تجد الدعم من حكومة السودان في الخرطوم. فكلا الحكومتين كانت تعمل على إضعاف الأخرى ولكن لم ترد أي منهما الإذعان لمسألة انفصال جزء من أراضيها. فلذلك لجأت كل منهما للجماعات المتمردة من الأخرى لخوض حرب بالوكالة عنها. واستمرت هذه الحرب بالوكالة حتى عام 1993 عندما قام ثوار جبهة التقراي وأرتريا بقلب حكومة منقستو وأصبحت أرتريا دولة مستقلة. ولم يستطيع الجيش الشعبي لتحرير السودان مطلقاً تحقيق أي انتصار عسكري مباشر ضد شمال السودان. فالحرب كانت مثل صندوق كبريت في ملعب لكرة القدم فالجيش الحكومي كان يفرض سيطرته على المدن بما فيها العاصمة جوبا ويقوم المتمردون بإثارة القلاقل في المناطق الواقعة بينها. ولم يكن للمتمردين تأثير يذكر على الشمال ما عدا إنهاكه اقتصاديا عن طريق إجبار الحكومة على الاحتفاظ بجيش كبير وغير فعال. ولم أصل أنا مطلقاً لإجابة حول الدوافع التي جعلت الخرطوم توافق على ما طرحه الأمريكان. قد يكون الرئيس البشير وحكومته اعتقدوا أن الاستقلال سوف لن يحدث مطلقاً، مثل الوعود الكثيرة التي أطلقوها هم طيلة السنوات الماضية ولم تتحقق أبداً. وربما قد تعرضوا للتهديد من قبل الحكومة الأمريكية أو أن بعضهم قد اعتقدوا أن الجنوب يعاني من انقسامات وعداوات قبلية كثيرة سوف لن تجعله يعيش كدولة مستقلة. وكانوا على حق ففي عام 1991 قام ريك مشار، زعيم النوير في الحركة الشعبية، بمحاولة للانقلاب على جون قرنق وفشلت هذه المحاولة ولكنها أطلقت صراع قبلي داخلي كان ريك مشار يجد فيه الدعم من حكومة الخرطوم. وقمت أنا بزيارة الموقع الذي جرت فيه هذه الحرب بعد وقت قليل من اندلاعها حيث شهدت عمليات حرق القرى ومخازن الحبوب الغذائية وقتل الأبقار مما دفع بالمدنيين للهرب والتعرض للمجاعات. ولقد صدمت لعدم الاهتمام الذي أبداه القادة العسكريون والجنود في الجانبيين، ليس فقط تجاه حلفائهم في ألسابق، بل تجاه النساء والأطفال الذي ينتمون لنفس مجموعاتهم العرقية. وبعد عمليات القاء المساعدات الغذائية التي كانت تقدمها المنظمات الإنسانية للمدنين عبر الجو كان المقاتلون يقومون وبكل بساطة بنهبها منهم. ولم أشاهد أي واحد منهم يقدم أقل قدر من المساعدة للمدنين. وخسر مشار الحرب وهرب للخرطوم حيث منح منصباً في الحكومة، ولكن هل أثر ذلك على موقعه في عيون أفراد قبيلته؟ كلا فبحلول الاستقلال في جوبا أدى مشار القسم كنائب للرئيس وعندما تمت إقالته من هذا المنصب في عام 2013 توجه لأخذ السلاح، الذي من المرجح أن تكون قد مدته به الخرطوم، وذلك بهدف الإطاحة بالرئيس سلفاكير، الذي هو زعيم الدينكا. لقد زرت الجنوب خلال تلك الحرب حيث تأكد لي بما لا يدع مجالاً للشك أنه إذا أصبح الجنوب دولة مستقلة سوف يؤدي ذلك لا محالة لاندلاع حرب بين الدينكا والتوير ومن المحتمل أيضا مشاركة الشلك فيها وستقع المجموعات العرقية الصغيرة الأخرى في فخ صراع القوى هذا. وبعد أن تم تسليم البلاد لمقاتلي الجيش الشعبي وفقاً للاتفاقية التي عقدت بوساطة من الأمريكان اتجه المقاتلون جميعاً للمطالبة بمعاشات للتقاعد فكانوا يأنفون من القيام بأي عمل، وهذا ما شاهدته منهم خلال الحرب أيضاً. ففي منطقة بانياقور في عام 1993 شاهدت الأطفال وهم يعانون من سكرات الموت والجوع والمرض ولم يقم المقاتلون حتى ببناء مأوى لهم فضلاً عن دعوتهم للمشاركة في تناول الأغذية والإمدادات التي كانت متوفرة لديهم بكثرة. وخلال نفس هذه الزيارة قمت بزيارة قرية للنوير هاجمها مقاتلو الدينكا فشاهدت الجثث الممزقة للرجال والنساء والأطفال وكل أكواخ القرية المبنية من القش وقد تم حرقها. وفي وقت سابق من هذا العام وجدت حكومة جوبا أنها حظيت بإنتاج من البترول لديها يبلغ 270 ألف برميل في اليوم والآلاف من الأميال المربعة من أخصب الأراضي الزراعية في إفريقيا وتم إضعاف الخرطوم التي وتواجه العديد من الحركات المتمردة ولا توجد أي مساعدات من بقية دول العالم فكان أكبر سؤال تواجهه جوبا هو على أي نحو تنفق هذه الأموال؟ نحن الآن ندرك أن الرئيس سلفكاير والمجموعة المقربة منه قد سرقوا نحو 4 مليار دولار، وتحسباً لأنه قد لا يعلم بذلك قام دبلوماسي غربي بتسليمه كشفاً بكافة المبالغ المودعة في الحسابات المصرفية لأعضاء حكومته. إذاً ما الذي تعلمته أحدث حكومة وأحدث بلد وأحدث حكام في إفريقيا من خمسين عام من استقلال إفريقيا؟ لا شيء مطلقاً. http://africanarguments.org/ [email protected]