تداعيات (( لكن أمي قالت لي البرد يا أستاذ )) انفجر الفصل ضاحكا بتناغم عظيم حتى أن ذلك الأستاذ الصارم المخيف لم يتمالك نفسه فضحك حتى استلقى على اقرب درج ,أثناء تلك الضجة الضاحكة وقف هناك أمام باب الفصل ، وقف " باشري " متحملا عبء تأخيره عن الطابور الصباحي ... التأخر عن حصة الحساب عبء أكيد ,وقف باشري " أمام باب الفصل مرتجفا من تصور عبء العقاب والبرد متغطياً بملاءة قديمة ومخططة بخطوط بنية ، وجه برئ ، برئ جداً يبدو من خلال تلك الخطوط البنية ، الملاءة كانت كبيرة الى درجة أنها غطت على الشبط البلاستيكي الأبيض ، وفي تلك اللحظة ، في تلك المنطقة الملتهبة وقف " باشري " منتظراً مصيره ، لم يحاول مطلقاً العثور على سبب غير الذي نطق به ،(( لكن أمي قالت لي البرد يا أستاذ ))، صفعت تلك البراءة كل جهامة الأستاذ وحولته الى ذلك الضاحك وسط دهشة التلاميذ ، ثم فعلا كان هناك برد شتاء أول يناير ، حين كان " باشري " بين الدخول والخروج ، مرتجفا يتملك الغموض نظراته،يحاول أن يجد تفسير لتلك الضحكة التي جمعت بين التلاميذ والأستاذ ، ماتت محاولته للتفسير حين سمع الأستاذ يقول له من بين بقايا ضحكة عذبة (( معليش يا " باشري " ... ادخل يا ابني )) خطوات " باشري " نحو الداخل تؤكد تماما تلك البراءة ، يجرجر وراءه تلك الملاءة لذلك تعثر ووقع أمام الأستاذ لتعود تلك الضجة الضاحكة ، هنا ، عادت الى الأستاذ تلك الغلظة والجهامة .. خلع عن " باشري " تلك الملاءة القديمة وصرخ في التلاميذ(( خلاص كفاية .. سكوت )) ,لم ينتبه الأستاذ في غمرة انفعاله فاستعمل ملاءة " باشري " كبشاورة مسح بها السبورة لتتوزع بين التلاميذ ضحكات مكبوتة ومتفرقة هنا وهناك . قليلا ما كان " باشري " يختلط برفاقه التلاميذ, كان نحيلا تخاف حين تراه من فكرة أن تأخذه معها هبة ريح ، يقف بعيدا عن تجمعات التلاميذ ، يخاف من أسئلة المدرسين ، لا يقوى على صنع الإجابات مهما كان الأمر ، لم يشاهد قط وهو يلعب معهم, دائما يركض نحو البيت القريب من المدرسة في فسحة الفطور ، وفي نهاية الحصص ، برنامج صارم جدا , لا يدخل في تلك المشاجرات الصغيرة والحميمة ، يحلم بشراء فطور من " حاجة آمنة " التي تجلس تحت شجرة النيم ويلتف حولها التلاميذ إلا هو فإن عليه أن يركض الى البيت حالا ، دائما ما ينظر الى حيث تجلس " حاجة آمنة " و هو يحس بانه مظلوم, تمرد مرة ولم يفعل عادته في الركض ليفطر في البيت , قبل ان يندس في زحمة رفاقه جاءت والدته وهي تصرخ من بعيد , كانت تخاف عليه, تحاصره بهذا الخوف ، جاءت ,أخذته من زحمة رفاقه وجرجرته الى البيت حيث تناول إفطاره وشرب شربات الليمون ليرجع حزينا الى المدرسة ، كان يركض حين ينتهي من إفطاره, كل ذلك خوفا من المساءلة وعقاب التأخير ، كان يحلم بشوارع في حكايات رفاقه التي نادرا ما يشارك فيها, يسمعهم يتحدثون عن السينما ، عن مباريات دار الرياضة ، عن مغامرات وفضائح صغيرة ، نكات (ود نفاش) تبدو عالما غريبا بالنسبة له ، كان يعجب وفي خفاء بأولئك التلاميذ المغامرون, يحسدهم ، يحلم بعوالمهم الخالية من الخوف ، كان بالنسبة لهم مجرد طفل لم يتخل عن طفولته . لذلك لم يكن مثار اهتمام لكنهم كثيرا ما يتندرون بإنطوائيته وحصار والدته الغريب له ، لا سيما ذلك الموقف المشهور الذي تحولت فيه الملاءة إلى بشاورة ، كانوا يستعذبون أسم " باشري " لذلك لم تكن هناك حاجة الى خلق لقب جديد ، يكفيه تماماً انه " باشري " حتى في الثانوي العام لم يتغير " باشري " ولم تتغير فكرة والدته " نفيسة " عن رغبة أبنها في عوالم يحتاجها ، لم يتغير خوفها عليه , كانت لا تتحمل أن يغيب عنها ، تمارس أمومتها على " باشري " أبنها الوحيد ، كانت تحاول أن تعوضه فقد والده ذلك الاحمق ، كانت تحميه من بطش زوجها الحالي " دفع الله " سر تجار المدينة , كان " باشري" بالنسبة له دلالة واضحة على عقمه ، حين يمر أمامه يحس انه مصاب في رجولته ، لذلك كان يبطش به ، اشترى لهذا الغرض سوط عنج لا ينسى أبدا أن يمسح عليه بالزيت أمام عيون " باشري " التي يحتلها الرعب لذلك كان " باشري " حريصا في المدرسة علي البعد عن المشاكل حتى لا يتكرر برنامج التعذيب الذي يحاصره في البيت . في موجة من أمواج حماقاته الصاخبة التي لا تقبل التراجع مطلقاً " حمدان " طلق زوجته " نفيسة الضو " الملقبة " بالحنونة " طلاقا بالثلاث ,لم ينس في غمره حماقته أن يحضر أربعة شهود بدلا من اثنين وحين حاول الأجاويد التدخل صرح مأذون الحي بان الطلاق بائن بينونة كبرى ، كان " باشري " وقتها يتعلم المشي ويتلمس مفاتيح الكلام من خلال بعض همهمات وغمغمات فيها كل عذوبة الطفولة , والد باشري حمدان تمادى في حماقاته وقرر أن يبحث عن محلل , دارت تفاصيل تلك الحماقة في السر ولكن سرعان ما أعلنت عن نفسها وسط دهشة الجميع . " دفع الله الجكين " سر تجار المدينة في بحثه المضني عن (جنا) قبل متآمرا وخادعاً حمدان باشري " بقبوله لدور المحلل خدمة منه ورغبة في لم الشمل ، هكذا تزوج " دفع الله الجكين " طليقة "حمدان باشري " "نفيسة الحنونة " واضعا في الاعتبار إنها امرأة خصوبتها مؤكدة والدليل على ذلك باشري الذي كان وقتها لا يعرف من الحياة سوى اكتشافاته الصغيرة . " دفع الله الجكين " يصر على عدم الاعتراف بعقمه برغم انه تزوج من ثلاث وطلقهن بحجة أنهن عقيمات . وسط دهشة الجميع تزوج من " نفيسة الحنونة " ووسط دهشة الجميع رفض أن يطلقها حتى يعود أليها " حمدان باشري " والذي جمع كل حماقاته إزاء هذا الأمر وحرق أحد مخازن " دفع الله الجكين " وخرج من المدينة ليأتي خبر وفاته بعد شهرين من الحدث , هكذا وجد باشري نفسه بين همسات الاخرين عن حماقات والده وبطش زوج والدته المكثف هو ذلك الطفل المسكين الذي لم يشارك مطلقا في اختيار مصائبه . حاول " باشري " التمرد والخروج من سطوة عاطفة والدته الحنونة ، احتال في ذلك مارس كل ضغوطه ، رفض الاكل , عندها نجح في أن يقنتي ذلك الترتار الذي هو أصلا بمثابة عجل حديد بالنسبة لدراجة, بذل مجهودا اكثر حتى يسمح له باللعب بترتاره خارج المنزل ، ولكن والدته كانت لا تفتأ تخرج وتقف أمام الباب لتراقبه من لحظة الى الأخرى ، المرة الوحيدة التي تمادى فيها وركض بالترتار حتى توغل في السوق مستمتعا بانطلاقته كان ذلك في الإجازة الكبرى ، أنها المرة الوحيدة ولكن سرعان ما تبددت متعته بتلك التهديدات التي مارسها عليه زميله في المدرسة" عصمت " , حين كان " عصمت " يفكر في كيفية الحصول على نقود تذكرة السينما صادف " باشري " منطلقا بالترتار, ركض خلفه حتى أوقفه وحيث أنه يعلم بكل تلك البراءة , بذلك الخوف من كل شئ ,امسك " عصمت " " باشري " من يده وهدد قائلا :(( انت ما سمعت أستاذ عوض قال شنو ؟)) ((قال شنو ؟ )) ((ايوة .. اعمل ما عارف)) ((لكن قال شنو ؟)) ((قال أي واحد نلقاهو يلعب بي ترتار في السوق نكتب أسمو وخاصة في الإجازات ولا من تفتح المدرسة حيكون هناك حساب ، حساب عسير .)) (( بس أنا ما عارف .)) ((ما عارف .. بالله ؟)) ((خلاص تأني ما بلعب )) ((يعني ما اكلم أستاذ عوض )) ((لا عليك الله يا عصمت )) ((خلاص جيب شلن )) ودفع باشري المبلغ المطلوب وكلما احتاج عصمت إلى ذلك -الشلن- يدعي حماية باشري محرضا إياه يلعب بترتاره, لكن لاحظ باشري أن عليه أن يدفع -الشلن- إلى آخرين غير عصمت . ترك الترتار وتفرغ تماما لمحاولته صنع عربات من الصفيح الذي يحصل عليه من العلب الفارغة و اطمأنت نفيسة الحنونة وهي تشاهد ابنها المسكين أمامها . كان الأستاذ عوض مخيفا إلي درجة أن حصة الطبيعة التي يدرسها, عادة ما تكون بعد فسحة الفطور لذلك يدخل التلاميذ إلى الفصل بعد أن تكون جيوبهم امتلأت بتراب بيوت النمل المتناثرة في حوش المدرسة ، يأخذ كل تلميذ حفنة من تراب النمل هذا ويقرأ آية الكرسي سبع مرات وكلما انتهي من قراءة يبصق علي التراب الذي في قبضة يده هكذا سبع مرات ، كان من عادة الأستاذ عوض بعد السلام أن يطرح السؤال عن الدرس السابق ويبدأ في اختيار من يجاوب وحين ترد الإجابات يشك التلاميذ في صحتها لان الأستاذ عوض يقول بعد إجابة أي تلميذ(( خليك واقف )) ,هكذا يقف كل الفصل ملتبسا بالغموض ليختار الأستاذ من اجاب إجابة صحيحة علي السؤال معلنا ذلك بطريقة مبعثرة ((أنت هنا اقعد، أنت هناك .. أيوة أنت في الركن أنت هناك )) ويرتاح هؤلاء الجالسون تماما بينما يتلقي الواقفون ضربات سوط الأستاذ المؤلمة لذلك كانت حصة الطبيعة عبارة عن رعب مكثف في أذهان التلاميذ . دخل الأستاذ عوض حاملا مع كراسة التحضير كل ذلك الرعب , دخل الفصل ومعه شخص آخر قصير القامة ، ممتلئ الجسد, اقرع تماما ، يبدو أنيقا اكثر من اللازم ,لامع يعلن مظهره عن العافية ، دخل هذا الشخص إلى الفصل مع الأستاذ عوض الذي بدأ مرتبكا بعض الشيء ويدعي التهذيب، لاحظ التلاميذ ذلك ، لذلك تحولت نظراتهم إلى هذا الرجل الذي هو سبب تحول الأستاذ عوض لم يعد هو الأستاذ المرعب , جلس الرجل علي كرسى في ذلك الركن خلف الباب بعد أن أحضره الأستاذ عوض رد التلاميذ التحية جلسوا علي مقاعدهم و عيونهم علي ذلك الرجل ، تحسس بعض التلاميذ جيوبهم متأكدين من وجود تراب النمل المدعوم أية الكرسي ، بخط مرتبك كتب أستاذ عوض علي السبورة البسملة , كتب بنفس الارتباك التاريخ بالإفرنجي والهجري ,كتب عنوان الدرس (دورة الحياة) حاول أن يدخل في الدرس , تذكر انه نسي أن يرحب بالضيف المريب :(( معانا الليلة الأستاذ الكبير مفتش التعليم عبد الرحمن خليفة.. قيام ، وقف الفصل : تحية خاصة للأستاذ معلم الأجيال )) ردد الفصل بتنغيم جميل وبعيون مرتابة(( وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته )). جلس التلاميذ ، حاصر الارتباك الأستاذ عوض ,تلعثم , سيطر عليه التردد فجأة وقف المفتش وصرخ في وجه الأستاذ وتناول منه قطعة الطباشير بعنف ملاحظ وابعد الأستاذ عن السبورة ودخل بانفعال في الدرس وهنا ضجت دواخل التلاميذ بالرعب ولا سيما أن الأستاذ المرعب ، الأستاذ الأستاذ عوض قد ارتعب من هذا الرجل الغريب ولان باشري من التلاميذ قصار القامة لذا كان يجلس في الصف الأمامي وجها لوجه الأستاذ , لذلك كان هذا الموقع يجعل باشري يملا جيوبه الثلاثة بتراب النمل مرددا أية الكرسي واحدا وعشرين مرة, حين صرخ المفتش في وجه الأستاذ عوض ارتجف باشري وابتل بالعرق تماما ، كان ينظر بخوف عميق نحو ذلك الرجل الذي أخاف الأستاذ عوض ذلك الذي يخيفه دائما ، ينظر اليه حذرا وحين انتبه لصوته كان المفتش يقول(( نزلت مطرة ، التربة شربتني ))باشرى لا يفهم كل ذلك ((نبتا قش )) باشرى ينظر الي المفتش حذرا ((جاءت بقرة )) , يرتجف باشرى يتساقط عرقه علي الدرج , المفتش يصرخ ((البقرة أكلتني)) , يقترب المفتش اكثر من باشرى الذي يتراجع إلى الوراء ((بقيت لبن)), يقترب المفتش اكثر من درج باشرى ((جاء راعي حلبني)), باشرى يلتصق بالدرج ((ختوني في النار)), يقترب بحيوية نحو باشرى ((كبوني في كباية)) باشرى يحاول الهروب من اقتراب المفتش وينظر إلى الأستاذ عوض الذي يقف هناك بعيدا . ((ادوني للولد الشاطر ده )) هنا ضرب المفتش علي درج باشري ضربة مباغتة لتختلط جملة (( قام شربني)) بصرخة هلع من باشري ، صرخة عالية جعلت المفتش يتراجع للوراء, باشري صرخ بكل خوف الدنيا لانه حين كان يحاول تفسير ماهية هذا الرجل الغريب الذي أخاف الأستاذ لم يسمع حضرة المفتش وهو يبدأ الدرس قائلا (( اعتبروني جزئي من ماء ، اتبخرت بفعل الحرارة بقيت سحاب نزلت مطرة .....)) [email protected]