إجراءات أمنية غير معتادة صاحبت دخول الزوار والإعلامين صباح أمس لباحة المجلس الوطني بمقره بأم درمان. وحينما تبرز تلك الإجراءات غير الطبيعية والاستثنائية، فإنه مؤشر لترقب أمر ما سيكون مسرحه البرلمان. واتضح لاحقاً أن تلك الإجراءات (الاحترازية) قصد منها منع منسوبي الجماعات الإسلامية والسلفية، من تنظيم وقفة احتجاجية على إجازة البرلمان الأسبوع الماضي لقروض تحتوي على أسعار فائدة اعتبروها (ربوية). تحرك تلك المجموعات الإسلامية ودعوتها لتنظيم وقفة احتجاجية أمام مقر المجلس الوطني صباح أمس، استبقته جبهة الدستور الإسلامي بإصدار أمينها العام د.ناصر السيد، بياناً أعلن فيه رفض هذا القرض، وطالب رئيس الجمهورية بمراجعة هذا القرض أو مراجعته من هيئة علماء المسلمين ومجمع الفقه الإسلامي، وبرفض هذا القرض، وثمن مواقف بعض نواب المجلس الذين رفضوا تمرير هذا القرض. ووجه بيان جبهة الدستور الإسلامي انتقادات عنيفة لقرار إجازة هذا القرض، واعتبره دليلاً على استمرار الدولة في سياسة (الدغمسة) للشريعة الإسلامية وتجميد القوانين الشرعية، وتجاوز الدستور الذي يؤكد الالتزام بالشريعة الإسلامية، واتباع سياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذيْن دمرا الحياة وجعلا الناس يعانون من الضنك والغلاء الطاحن الذي تعيشه البلاد والعباد. الخيارات المتاحة في حال إقرار مشروع القرض من المجلس الوطني، فإن الخيار الدستوري لعرقلة تمريره، هو استخدام رئيس الجمهورية لسلطاته المنصوص عليها دستورياً، بإبداء الاعتراض عليه كتابة خلال تسعين يوماً، ووقتها سيجتمع المجلس مرة أخرى لمناقشة القانون، فإذا أجازه النواب بأغلبية الثلثين، يصبح نافذاً حتى إذا لم يوقع عليه رئيس الجمهورية، أما إذا لم يحز على تلك النسبة، فيعتبر بحكم الملغي. النقطة الجديرة بالتأمل في هذا السيناريو، هي وجود ترابط عضوي بين رئيس الجمهورية ونواب البرلمان، باعتباره رئيس حزب المؤتمر الوطني، الذي يتمتع ويحظى بالأغلبية الميكانيكية، وبالتالي لو أراد الرئيس عرقلة القانون، فلن يحتاج لاستخدام النص الدستوري وإنما بالأغلبية الميكانيكية لنواب حزبه لإسقاط هذا القانون. إجازة القانون تشريعياً والمصادقة عليه من قبل رئيس الجمهورية، ستجعل أمام المعترضين عليه خياراً وحيداً يتمثل في الطعن فيه بالمحكمة الدستورية، باعتباره مخالفاً لنصوص وأحكام الشريعة الإسلامية، التي يقوم عليها الدستور – وهذا ما أشار إليه تلميحاً بيان الأمين العام لجبهة الدستور الإسلامي - لكن ما سيضعف الأرضية الرئيسية لهذه الدعوة، هو وجود رأي فقهي آخر، يبيح قبول مثل تلك القروض، باعتبارها تدخل في باب (الضرورات التي تبيح المحظورات). شد وجذب دعونا نعود للوراء قليلاً، وتحديداً الأسبوع الماضي، حينما ناقش نواب المجلس الوطني مشروع اتفاقية لتمويل كهرباء الولايات الشرقية الثلاث (القضارف، كسلا، والبحر الأحمر)، بقرض من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية بقيمة 25 مليون دينار كويتي، تسدد على 42 قسطاً نصف سنوي بالدينار الكويتي، لمدة 21 عاماً بعد فترة سماح لا تتجاوز ال4 سنوات، وفائدة سنوية بنسبة 2%، بالإضافة إلى نسبة 0.5% لمواجهة المصروفات الإدارية. وشهدت الجلسة يومها جدلاً عنيفاً بين وجهتي نظر، حيث رأت الأولى التصويت لتمرير الاتفاقية، باعتباره يحقق المصالح، واستند أصحابها في موقفهم ذلك لما جاء في تقرير اللجنة البرلمانية المشتركة، والتي أشارت فيها لضرورة إجازة هذا القرض، نظراً لعدم وجود بدائل ومصادر تمويل شرعية بالاستناد لتوصية (آلية مشروعات اتفاقيات القروض الربوية بالفائدة)، والتي وقع رئيسها وأعضاؤها ال6 على مشروعية القرض، باستثناء ممثل مجمع الفقه الإسلامي الأول في الآلية د.عبد الحي يوسف، فيما وقع عليها ممثل المجمع الثاني بالآلية د.إبراهيم أحمد الشيخ الضرير. أما الفريق الثاني؛ فرفض مبرارات قبول هذا القرض، وكان أبرز المعارضين له النائبة عن حزب المؤتمر الوطني بروفيسور سعاد الفاتح، التي دعت لعدم إجازته، وحذرت بأعلى صوتها من غضب الله على المرابين. أما زعيم المعارضة ورئيس كتلة المؤتمر الشعبي إسماعيل حسين بيّن أن هذا القرض ربوي، ويجب عدم إجازته، لأن النواب سيسألون عنه يوم القيامة. موضحاً أن السودان فشل في الوفاء بأصل الديون، والتي تضاعفت بسبب الربا من 15 مليار دولار أمريكي إلى 41 مليار دولار أمريكي. انتهت تلك الجلسة الدراماتيكية باللجوء للتصويت، وسط شد وجذب بين الفريقين، استوجبا اللجوء لأخذ أصوات النواب بالوقوف بعد تساوي أصوات الحاضرين المصوتين ب(نعم) و(لا) للقانون، وجاءت النتيجة النهائية بتأيد 52 نائباً للقانون، فيما اعترض عليه 49 نائباً، وامتنع 9 من النواب عن التصويت. دلالات الانقسام توجد ملاحظات تستوجب التوقف في الواقعة الخاصة بإجازة القانون، أولاها هي إجازة القانون بفارق ضئيل، وهي ثلاثة أصوات فقط، في ظل امتناع 9 نواب، وبالتالي لو قدر لأربعة نواب من الممتنعين المشاركة في التصويت ضد القانون، لتمّ إسقاطه. أما الملاحظة الثانية - وهي الأبرز - فهي اعتراض 49 نائباً على مشروع القانون، وطبقاً لتوزيع المقاعد بالبرلمان، وتمثيل القوى السياسية داخله، فإن غالبية الرافضين للقانون والمناهضين له، هم من كتلة الحزب الحاكم نفسه. أما الملاحظة الثالثة؛ فهي من خارج قاعة البرلمان، وهي عدم توقيع الممثل الأول لمجمع الفقه الإسلامي د.عبد الحي يوسف في (آلية مشروعات اتفاقيات القروض الربوية بالفائدة)، على الفتوى التي أجازت هذا القرض، وهو أمر يحمل تفسيرين، أولهما أن عدم التوقيع ناتج عن غياب بسبب ظرف خاص – كعدم الوجود في البلاد - أو نتيجة لموقف فقهي رافض لهذا القرض. دعونا نحاول توضيح الصورة وتكبيرها بشكل أعمق، فالممثل الأول لمجمع الفقه الإسلامي د.عبد الحي يوسف، هو من أبرز قيادات ورموز المجموعات الإسلامية والسلفية الداعية، التي دعت يوم أمس لمناهضة القرض الكويتي (الربوي)، وبالتالي لا يستقيم أن يقوم أحد رموز تلك المجموعات، بإجازة القرض في الوقت الذي يناهض فيه أنصاره وحلفاؤه هذا القرض، وبالتالي فإن الموقف الأصوب، هو عدم التوقيع على تلك الفتوى، مع ضرورة عدم إغفال فرضية أن عدم التوقيع نتج عن ظروف شخصية وخاصة، ولا علاقة له بالموقف من القرض. تباينات أخرى الخلاف حول القرض الربوي، هو الحدث الأبرز للخلافات المكتومة بين الحكومة وتلك المجموعات الإسلامية والسلفية منذ الاختراق الكبير في العلاقات بين الطرفين، بعد الانقسام بصفوف الإسلاميين الحاكمين أوائل القرن الحالي، والتي انتهت بإبعاد د.حسن الترابي ومناصريه من مؤسسات الحكم، باعتباره كان يمثل العقبة الرئيسية أمام أي تقارب لتلك المجموعات والحكومة بسبب تحفظاتهم على آرائه الفقهية التي اعتبرها بعضهم بمثابة خروج (من الملة). حالة الصفاء لم تستمر طويلاً، إذ سرعان ما عكرها عدد من المواقف، لعل أبرزها دولياً الحرب على الإرهاب، وتعاون الحكومة مع الولاياتالمتحدة في هذا الملف، فيما كانت تساند - بشكل مستتر أو علني - المجموعات الجهادية وعلى رأسها تنظيم القاعدة. أما إقليمياً فمساندة الخرطوم لمساعي الاتحاد الأفريقي عموماً وإثيوبيا على وجه الخصوص بالصومال، والتي استهدفت القضاء على تنظيم حركة الشباب الإسلامي – الذين أعلنوا مستقبلاً انضواءهم تحت لواء تنظيم القاعدة - التي كانت تحظى بتأييد ومساندة جزء كبير من تلك المجموعات الإسلامية والسلفية. وشهدت الجبهة الداخلية وقضاياها العديد من أوجه التباين الظاهرة والمستترة بين تلك المجموعات والحكومة، لعل أبرزها اعتراضاتهم على نصوص اتفاقية السلام الشامل، وتحفظات بعضها على الاستفتاء ومنح الجنوب حق الاستقلال مع إبدائهم لتحفظات وشكوك حول جدية الحكومة في تطبيق التوجه الإسلامي بالبلاد. الخطر (الشيعي) تبقى بؤرة التوتر الأساسية بين الطرفين، هو ما تعتبره تلك المجموعات الإسلامية والسلفية (تواطؤاً) وصمتاً رسمياً تجاه الوجود (الشيعي) والنشاط بالبلاد، معتبرين أن النشاط (الشيعي) شهد تمدداً غير مسبوق، حيث تعتبر تلك المجموعات الإسلامية والسلفية، الوجود الشيعي أبرز المخاطر والمهددات على البلاد. لعل ما يؤكد حساسية هذا الأمر واستشعار تلك المجموعات الإسلامية بخطورة النشاط (الشيعي)، هي الفعاليات المتعددة التي نظمت مؤخراً للتحذير من المدِّ الشيعي، لعل أبرزها المؤتمر الذي نظمته جماعة أنصار السنة المحمدية (الإصلاح)، التي يتزعمها الشيخ أبو زيد محمد حمزة حول الخطر الشيعي بالسودان. أما آخر تلك الفعاليات، فنظمتها الرابط الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان، بمسجد الغفران بالمهندسين خلال الأيام الماضية، وطالب الأمين العام للرابطة، مدثر أحمد إسماعيل بعدم قبول أي دعم إيراني، وقطع العلاقات مع طهران. بكل المعطيات؛ فإن الملف الخاص بالنشاط والتمدد الشيعي بالبلاد، يعد عملياً النقطة المركزية في الأزمة المكتومة في الآونة الأخيرة، بين تلك المجموعات الإسلامية والسلفية من جهة، والحكومة من جهة أخرى، خاصة فيما يمثل بقية النقاط الخلافية، وجوانب أقل حدة من بقية القضايا الخلافية الأخرى، بما في ذلك قضية القروض الربوية، والتي أطلت برأسها منذ الجدل الذي صاحب القرض العماني لسد مروي في العام 2003م، ولم ينتهِ منذ ذلك الوقت. بشكل عام، فإن مقدار تأثر تلك الجماعات الإسلامية والسلفية بما تعتبره قروضاً ربوية، ربما يمكنها من توظيفها في خطابها الدعائي والتنظيمي، لاستقطاب مناصرين جدد لها باعتبارهم يمثلون ويعبرون عن (التوجه الإسلامي كامل الدسم). أما قضية التمدد الشيعي فهي بمثابة خطر داهم باعتباره فكراً يناقض رؤيتهم العقدية والمذهبية، فأية مساحة تمدد شيعي، هي خصماً على حراك ونشاط تلك المجموعات، وهو ما يستوجب عليها أن تتصدى لهذا الأمر الآن وفوراً وحسمه، قبل استفحاله وانتشاره. السوداني