" من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لا تكلفه شيئاً, فسوف يُضطَر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى سعر" إفلاطون لكافة أفراد الشعب: المواطن الحق لا يعزل نفسه عن مجتمعه و يقف مكتوف الأيدي متفرجاً على حال أمته و شعبه و أهله. بل يجب أن يكون له رأي واضح في كل قضايا و شئون أهله وبلده. والأدلة على وجوب ذلك كثيرة ,منها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ومن لم يصبح و يمسي ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم" شكل العلاقة التي يجب أن تكون بين الحاكم والمحكوم: في مرة تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إعرابي وكان ذلك أمام الناس و قال " إعدِل يا محمد فليس المال مالك ولا مال أبيك " فهمَّ به سيدنا عمر لينال منه, فرده الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً " دعه يا عمر إن لصاحب الحق مقالا" ورد على الإعرابي " و يحك مَنْ يعدل إذا لم أعدِل !!" من هذا الدرس نخلص إلى أن أعلى الناس مرتبة و قداسة - الرسول - يتقبل المناقشة و يستمع لرأي المواطن مهما كان وضعه في المجتمع و مهما كانت قضيته و مهما كان إسلوبه. ففي الواقع لم يكن للإعرابي حق و الرسول صلى الله عليه وسلم لم يظلم قط , ورغم ذلك إستمع إليه . وكان في هذه الواقعة عبرة للمسلمين, ونهِي واضح بعدم إستخدام العنف بكل أشكاله في وجه الفكر والرأي, حتى و إن كان الرأي غير صائب و مغاير للواقع. و نجد أن سيدنا عمر قد إستوعب الدرس تماماً , فعندما أصبح أميراً للمؤمنين , قال له رجل " إتق الله يا عمر" فأعترضه أحد الصحابة قائلاً " أتقولها لأمير المؤمنين!؟" فقال عمر " دعه فالويل لكم إذا لم تقولوها والويل لنا إذا لم نسمعها ". وعلى الحاكم أن يعامل الشعب معاملة كريمة يكون أساسها المحبة و الإحترام و التقدير, يقول صلى الله عليه وسلم " خيار أئمتكم الذين تحبونهم و يحبونكم وتصَلُّون عليهم و يصَلُّون عليكم, و شرار أئمتكم الذين تبغضونهم و يبغضونكم و تلعنوهم و يلعنوكم" . و على الحاكم أن يتقبل إتهامات المواطنين له المباشرة منها و غير المباشرة , و أن يوضح للرأي العام الحقيقة بكل شفافية. فها هو رجل يقاطع أمير المؤمنين عمرو هو على المنبر ( تخيل الرئيس يخطب أمام حضور كبير و يقاطعه , لا ليهتف له بطول العمر ولا ليثني عليه), وكان المسلمون قد غنموا أبراداً يمانية قسمها عمر بين الناس بالتساوي. فخصه برد وابنه عبد الله برد. فتبرع عبد الله ببرده لوالده فقد كان طويلاً. فصنع من البردين ثوباً ووقف يخطب. قال عمر في خطبته " أيها الناس أسمعوا و أطيعوا.." فلم يدعه الرجل يكمل ووقف وقال له " لا سمع لك علينا ولا طاعة " .. أي شجاعة و أي رجولة تلك ..إنه الإيمان القوي الذي يضخ في المسلم طاقة جبارة تجعله لا يخشى في ما يراه حقاً لومة لأئم و لا بطش حاكم ولا قول خذَّالٍ آثم – و أنظر لرد فعل الحاكم الذي تمت معصيته أمام جموع شعبه , هل أمر حراسه بإعتقال الرجل! ؟– قال أمير المؤمنين " و لِمَ ؟ قال الرجل " من أين لك هذا الثوب و قد نالك بُردٌ واحد و أنت رجل طويل !!؟" فلم يغضب أمير المؤمنين – وقال للرجل " لا تتعجل " ونادى يا عبد الله بن عمر , فأجابه عبد الله " لبيك أمير المؤمنين " فقال له عمر " نشدُتك الله , البُرد الذي إتزرت به أهو لك ؟ فأجاب عبد الله " اللهم نعم " فقال الرجل " الآن مُر نسمع و نُطيع ". من أخطر ما يُدمر الأمة و يُفتك بجسدها الظلم. فالمولى عزّ وجلّ لم يقل " حرمت على نفسي .. " إلا عندما تحدث عن الظلم في الحديث القدسي " يا عبادي ... إني حرمت على نفسي الظلم و جعلته بينكم محرماً فلا تظالموا " و في هذا الحديث ينفي الله تعالى عنه الظلم بصرامة و قوة , وهي المرة الوحيدة التي يحرِّم فيها الحق تعالى شيئاً على نفسه. و يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إتقوا الظلم , فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " و يقول أيضاً " دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام و يفتح لها أبواب السماء , ويقول الرب " و عزتي لأنصرنك ولو بعد حين " و ما ذلك إلا لأن تبعات الظلم مُهلِكة للأمة. يقول الإمام بن تيمية " إن الله لينصر الأمة العادلة وإن كانت كافرة على الأمة الظالمة و إن كانت مؤمنة ". فمن يقتنص اللقمة من أفواه الجياع ظالم ... و من يختلس من الأموال العامة للأمة ظالم ... ومن يغتصب حقوق الآخرين المادية والمعنوية ظالم ... ومن يسعى لمنصب هو ليس جدير به فهو ظالم .... و حين تخص نفسك أو من حولك بإمتيازات لا حق لك فيها فأنت ظالم ... وحين تحكم بالقوة و البطش فأنت ظالم ... و حين تقول مالا تفعل فأنت ظالم ( كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقُولُوا مالا تفعلون). و من أهم مرتكزات الحكم في الإسلام العدل. وهو أساس الحكم يقول الله تعالى " و إذا حكمتم بين الناس أن تحكِموا بالعدل" و في الدولة الإسلامية الحقة لا إمتياز لإنسان على إنسان بسبب الثروة أو الجاه أو الحسب. يقول صلى الله عليه و سلم " لا تُفلِح أمةٌ لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي". ولن تكون عدالة في مجتمع يشيع فيه الغنى الفاحش والفقر المدقع وتتكدس الثروات الضخمة في خزائن بعض الناس في حين لا يجد بعضهم الآخر ما يسد رمقه .وعندما لا يجد االشيخ العاجز والمريض واليتيم الذي فقد عائله و الأرملة ما يكفل لهم حاجاتهم فلا عدالة ولا خير في هذا المجتمع .و إن من اخطر ما يتعرض له الناس و ما يفقدهم الثقة بأي نظام أن يروا في حياتهم اليومية تمييزاً في معاملة الدولة لهم. حيث يحس الفقير أو العاجز أو قليل الجاه بأن القانون يطبق عليه وحده بينما يُعفى الأغنياء وذوو النفوذ وهذا يجعل هؤلاء المغلوبين على أمرهم عرضة للإستغلال حيث يسعون للحصول على الحماية و الإفلات من القانون بالإتصال بذوي الجاه , و بذا يتفكك المجتمع ويفقد الفرد تماسكه و تضعف عِزته و تُمتهن كرامته و يفقد أمنه و أمانه و يسيطر عليه الخوف و الهلع. و العدالة تقتضي أن يكون الناس سواسية أمام القوانين. أحكام التشريع الإلهي تطبق على الجميع دون إستثناء الفقراء و الأغنياء , الحكام والمحكومين. فقد أمر الرسول بقطع يد المرأة المخزومية التي سرقت , وعندما جاء من يشفع لها قال له الرسول صلى الله عليه وسلم " أتشفع في حد من حدود الله !؟" ثم دعى الناس فخطب فيهم – و كان لا يخطب إلا في أمر مهم للمسلمين , يأمرهم أو يحذرهم – فقال " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه , و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , و الذي نفسِي بيده لو أن فاطمة بنت محمد – أعز الناس إليه – سرقت لقطعت يدها ". فالتفرقة في العقوبة نتيجتها هلاك و دمار للمجتمع. * إشترى عبد الله بن عمر إبلاً و أخذ يرعى بها حتى سمنت فذهب لبيعها في السوق. و رأها أبوه و عرف إنها له , فنادى به قائلاً " بَخٍ بَخ يا بن أمير المؤمنين " و أقبل عبد الله و سأله " مالك يا أمير المؤمنين, هذه إبل إشتريتها و بعثت بها إلى الحِمى أبتغي ما يبتغي المسلمون (التجارة). و لكن عمر لم يقتنع بذلك. فقال ساخراً " أرعوا إبل بن أمير المؤمنين .. أسقوا إبل بن أمير المؤمنين !! يا عبد الله بن عمر أعِد عليَّ رأس مالك و أجعل باقيه في بيت مال المسلمين". وهنا أخذه سيدنا عمر بشبهة إستغلال النفوذ !!!. إستدعى سيدنا عمر إمرأةً , فأجهضت ما في بطنها من الفزع. فاستشار في مسئوليته عن إجهاضها, قال سيدنا عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف إنه ينفذ حكم الشرع فلا مسئولية عليه. أما سيدنا علي فرأى إنه مسئول عن طريقة التنفيذ , فقال له " إن كانا قد إجتهدا فقد أخطئا و إن لم يجتهدا فقد غشاك. أرى عليك الدية " فقال له عمر " لا تبرح حتى تعرضها على بن عُدي ( قوم عمر) ففعل. كتب أحد الولاة للخليفة عمر بن عبد العزيز " إنه قد رُفع إلي رجل يسبك, فهممت أن أضرب عنقه , فحبسته و كتبت إليك لأستطلع رأيك " فأجابه عمر " أما إنك لو قتلته لأقتدتك به ( قتلتك) إنه لا يُقتل أحد بسب أحد إلا من سب النبي صلى الله عليه وسلم. فأسببه إن شئت أو خل سبيله. في دولة الإسلام الكل يفكر و يجتهد و يجهر برأيه في الشأن العام لا فرق بين حاكم و محكوم في ذلك. وعلى الحاكم أن يمتثل للرأي الصواب والفكرة السليمة و أن يرجع إلى الحق متى ما تبين له. خطب سيدنا عمر ضد المغالاة في المهور ليجعل حدها الأعلى مهور زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم. فقاطعته إمرأة بقولها " يعطينا الله و تحرمنا أنت؟" أليس يقول " و إن أرِدْتُم إستبدال زوجٍ مكان زوج و آتيتُم إحداهُن قِنطاراً ... " فنادى و هو على المنبر " أصابت إمرأة و أخطأ عمر !!" الحرية في الإسلام جزءاً من عقيدته فهو يقرر وحدانية الله ويطالب الأفراد بالخضوع للحي القيوم وبذلك يحررهم من العبودية لأي مخلوق و لأي فكرة ولأي جماعة. و الخضوع لله يتضمن التحرر من الخوف. " فليعبدوا رَبَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ و آمنهم مِن خوف" . لأن الذي لا يأمن في نفسه أولاً ثم في بيته فهو بلا شك إنسان قلق متوتر عاجز على أن يرفع قامته أو يبني وطنه وأمته. وفي دولة الإسلام ممنوع الإقتحام المفاجئ للناس في بيوتهم و مساكنهم " يا أيها الذين آمنوا لا تدخُلوا بيوتاً غير بيوتِكُم حتى تستأنَسوا و تُسلِموا على أهلِها ...." " فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخُلوها حتى يُؤذنَ لكم ..." نما إلى علم عمر أن شاباً يتعاطى الخمر و يسرف في المجون , فأراد عمر أن يضبطه متلبساً . فتسور عليه جدار داره وأطلع عليه وأراد أن يأخذه بهذا الذي ضبطه متلبساً به , فما كان من الرجل إلا أن قال لعمر " يا أمير المؤمنين جئنا بواحدة ( شرب الخمر ) و أما أنت فقد جئت بثلاث: - يقول الله تعالى" ولا تجسسوا ..." و قد تجسست عليَّ - و يقول " لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا ..." و أنت لم تستأذن - و يقول " وآتوا البيوت من أبوابها ...." و قد تسورت عليّ داري فرجع سيدنا عمر وقد إنتبه إلى أنه أتى بثلاث فعلاً. والحاكم العادل لا يعين أحد في منصب لقرابة أو محسوبية أو علاقة شخصية. و عليه أن يختار القوي الأمين و أن يستشير الجهات التي يمكن أن توصله لهذا القوي الأمين ( مؤسسات الدولة) وأن يخاف الله ربه و يقول الرسول صلى الله عليه و سلم " من ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة وهو يعلم أن في المسلمين مَنْ هو خير منه, فقد خان الله ورسوله " و يقول أيضاً " مَنْ ولى من إمور الناس شيئاً فآثر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم" ولا بعفيه من المسئولية إن قام أحد موظفيه بظلم أحد الرعية , بل يتحتم عليه إحقاق الحق ورد الظلم و عزل من أظلم. قال سيدنا عمر لأصحابه " أرايتم إذا أستعملت عليكم خيرُ من علمت ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت ما عليّ قالوا : نعم قال : لا, حتى أنظر عمله أعمل بما أمرته أم لا ". يتوجب على الحاكم أن يكون في خدمة الشعب وأن يحفظ أموال الدولة و يصونها وأن يحسن صرفها وأن يضرب بيد مِن حديد مَنْ يأكلون أموال الناس بالباطل من الربويين والمحتكرين والمضاربين و سارقي قوت الشعب و أن يُطهر أجهزة الدولة من الفاسدين و أن يمنع إستغلال السلطة والنفوذ والمحاباة. وعليه تحسين الخدمات العامة من صحة وتعليم و توفير فرص العمل و تلك تعطي المواطن إحساس بالكرامة و الإحترام. سيدنا عمر بن عبد العزيز دخلت عليه زوجته فاطمة و هو يُصلي نصف الليل فوجدته يبكي و سألته ما يبكيك يا سيدي قال : قد وُليت من أمر هذه الأمة ما وليت , فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهول واليتيم المكسور والأرملة الوحيدة و أشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد فعلمت أن ربي عزَّ وجلَّ سيسألني عنهم يوم القيامة و أن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت ألا يُثَبت لي حِجة عند خصومته , فرحمت نفسي فبكيت. على الحاكم أن يبتعد عن بطانة السوء و هؤلاء هم المداحين و المتملقين الذين ليس لهم فكر ولا رأي إنما هي المصلحة الفردية و المنفعة الذاتية. لذالك هم مع الحاكم حيث مال يميلون و إذا ضحك يضحكون , و يصورون الحكام وكأنهم معصومون من الخطأ فيزدادوا ضلالا. و يكونون سبباً في إنهيار الحكم لذا يقول صلى الله عليه وسلم " أَحْثُوا في أفواه المداحين التراب". رأى سيدنا عمر ( أمير المؤمنين ) رجلاً يرتكب الفاحشة فسأل علياً رضي الله عنه قائلاً : يا علي, أمير المؤمنين رأى رجلاً على فاحشة فماذا يفعل ؟ فقال علي : يقطع بالحق و يحسم الأمر به , يأتي بأربعة شهداء أو يُجلد ". الرسول الذي تدعون أنكم على هداه سائرون يضرب المثل في التحري المطلق للعدل. فلما أحس عليه السلام بدنو أجله خرج إلى الناس فصعد المنبر وقال " أيها الناس من كنت جلدت ظهره فهذا ظهري فليتقد منه , ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليتقد منه , أو من أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه , ولا يخشى الشحناء من قِبلي , فإنها ليست من شأني . ألا وإن أحبكم إليّ من أخذ مني حقاً إن كان له حق أو حللني فلقيت ربي و أنا طيب النفس " صلى الله عليك يا علم الهدى , أشهد أنك لم تجلد ظهر أحد ولم تشتم عرض أحد ولم تأخذ مال أحد ولم يكن لإحد حقاً عندك , لكنك أردت أن تضرب لنا المثل في تحري العدل و عدم ظلم الناس. ألست أنت القائل " الظلم ظلمات يوم القيامة" !! هذا هو الإسلام الذي نعرف أما ما عداه فهو إستغلالٌ للدين وتمترُس خلفه لمصالح حزبية و شخصية إنكشفت للناس. فأرجعوا البصر كرتين فيما فعلتموه في هذا الوطن الفسيح و تأملوا حال المواطن المكلوم المظلوم ... و أنظروا كيف ينقلب بصركم !!..... و قريباً سيجني الذين ظلموا السراب , و سيندمون على كل ما أقترفت أيديهم من آثام في حق هذا الشعب الطيب. و إن غداً لناظره قريب. وما النصر إلا صبر ساعة .... " فصبرٌ جميلٌ واللهُ المُستعان" [email protected]