مستشار الرئيس الحلقة الثالثة 1- الفترة الزمنية، التي تلت خروجي صباحاً لحفل أداء القسم، وحتى عودتي إلى الفندق, كنت فيها كالمنوم مغناطيسيا, أسمع وأنفذ ما أسمعه آلياً, أما العقل فهو مغيب تماما. بدأ الأمر حين أتاني مندوب المراسم صباحاً لمرافقتي، وتبعنا رجل الأمن, من لحظتها أصبحت رهينة للبروتوكول صارم الدقة0 عبرنا عدة ممرات داخل القصر, بهرتني بهدوئها وسجادها الفاخر الذي تغوص فيه الأقدام، فلا تسمع لها وقعا, والحديث الذي يدور همسا, والتحية، مجرد إحناءة رأس خفيفة لمن يمر بجوارك. ثم أدخلوني قاعة فخمة, أجلسوني فيها انتظاراً لفخامة الرئيس. بعد انتظار لم أكمل فيه حتى كوب العصير الذي قدم لي, تقدم نحوي مندوب المراسم، وهو يشير ناحية باب في أقصي يمين القاعة: - تفضل سيادتك من هذا الباب دخلت وعرق خفيف يتجمع على جبيني، متحدياً برودة القاعة. أوقفوني أمام طاولة مستطيلة, لمحت عليها مصحفاً, وقبل أن أتمعن في بقية الحضور, فُتح باب قبالتي تماما, وبدرت حركة تأهب وهمهمات خفيضة، ثم دخل بعض الحراس بملابسهم الرسمية. وقف الجميع، في نفس اللحظة التي أطل فيها فخامة الرئيس, بابتسامة ودودة، صافحهم وصافحني، ثم وقف على بعد أمتار قليلة من الطاولة، مواجهاً لي, يحيط به بعض الوزراء. بإشارة خفيفة من يده, تقدم نحوي رئيس القضاء، طلب مني وضع يدي اليمنى على المصحف، وترديد القسم خلفه, فعلت، وأنهينا المهمة، وتم تعميدي رسمياً مستشاراً للرئيس. مرة أخرى صافحني فخامة الرئيس مهنئاً, تبعه الحاضرون, ثم غادر. لحظات، وانصرف بعدها الوزراء ورئيس القضاء. وخلت القاعة، إلا من شخصي، ومندوب المراسم، الذي تقدم مني مهنئاً: - مهمتنا مع سيادتك انتهت، سنذهب سوياً إلى مكتبك، لتتعرف على المجموعة التي ستعمل تحت إمرتك قالها ثم تقدمني مخترقاً مجموعة متشابكة من الدهاليز والقاعات، وقف أمام إحداها مشيراً نحوها, فهمت من إشارته أن هذا هو مكتبي0 أعلى باب القاعة، لوحة عريضة بخلفية بيضاء، كُتب عليها بخط جميل مذّهب: مكتب مستشار رئيس الجمهورية للشؤون العامة (2) صدرت التوجيهات بمنحي فترة من الراحة، لترتيب حاجياتي الخاصة، والاستعداد للمرحلة القادمة, والخيار متروك لي في استغلالها، داخل أو خارج البلاد, وبما أني علمت من مدير مكتبي، بعد التعرف على مجموعة العمل من موظفين وسكرتارية, أن مهامي تنحصر في استقبال الزوار، الذين لا يتسع وقت فخامة الرئيس لمقابلتهم, وكذلك افتتاح المؤتمرات، والندوات، والمرافق العامة، وحضور المؤتمرات الخارجية، المعنية بالخدمات وما شابه ذلك، لذا قررت قضاء فترة الراحة داخل البلاد، للتعرف أكثر على ما يتطلبه منصبي، والقيام ببعض الزيارات الواجبة لأركان السلطة, وهذا ما جلب لي سخط أم العيال لاحقاً, إلا أني أرضيتها بجولة على محلات الأثاث، تتبعنا فيها أثر شعبان عبد الرحيم، وهو يردد معلناً عن محلات هالة للأثاث: ( ومن عند هاله هات..إييييه ) وماذا يهم, إذ لا يكلف الأمر إلا توقيع سيادتنا على الشيكات المحمولة جيباً, ثم جولة أخرى لمعارض المشغولات الذهبية, وثالثة للثياب, ورابعة لاختيار السيارة الخاصة بالأسرة, فانشغلت أم العيال عني بترتيب الفيلا, واستعراض مصوغاتها، وثيابها، وسيارتها، أمام زائراتها, الشيء الذي أتاح لي الفرصة للقيام بجولاتي التعارفية بهدوء. لقد أوضحت لي تلك الزيارات بجلاء، أني قد دخلت بؤرة صراع خفي ملتهب، بين أصحاب القرار. وإن كان لا يبين للعامة. في زياراتي تلك، تعرضت للعديد من محاولات الاستقطاب, وتأكدت للأسف، أن منصبي يأتي في ذيل ترتيب فئات المستشارين، فهنالك مستشارون من الفئة الخاصة، وهؤلاء هم الصقور, مرتبطون مباشرة بالرئيس, وفي يدهم القرار, والبقية من الفئة الثانية والثالثة. الحمائم. بعضهم يظهر الولاء للصقور نهاراً, ويحفر أسفل أرجلهم ليلاً, في انتظار سقوط أحدهم. غالباً، كان ذلك يؤدي بهم للتهلكة، في ظل وجود فئة ذات وجهين, مع هذا ومع ذاك. البعض آثر السلامة، واستكان تحت جناح الصقور. في كل جولاتي تلك لم أقابل أحداً من هؤلاء الصقور، أو بالأحرى لم استطع الوصول إليهم، بالرغم من أني حاولت ذلك، وفي كل مرة يتم تأجيل الزيارة لوقت لاحق. ما عرفته بعدها من أحد المستشارين الأقدم، أن هؤلاء لا يعنيهم أمر أمثالي من المستشارين، وأننا مجرد قطع شطرنج يحركونها متى ما أرادوا، ولتنفيذ مهام يرون أنها أقل من مكانتهم، وإن كانت فائدتها تعود آخر الأمر لهم. أقسم لي العديد من زملاء الفئة الثالثة، أنهم لم يقابلوا فخامة الرئيس، ولم يستدعهم لشهور خلت, وأنهم يعرفون أن خاصة المستشارين والمساعدين والوزراء، الأقوى نفوذاً، يطلقون عليهم لقب ( تنابلة الرئيس )0إلا أنهم لا يأبهون، طالما امتيازاتهم ومخصصاتهم لا تُمَس: - عليك أن تعرف من أي كتف تأكل، ومتى وكيف هكذا قالوها لي، وهم يربتون على بطونهم المتكورة. 3- أحد الصقور ويسمونه ( الباشا )، وهو أقواهم نفوذاً, يخشى سطوته الجميع، حتى الصقور أنفسهم. استدعاني لمقابلته بمنزله. انتابني حين رؤيته، إحساس الفريسة حين يداهمها الخطر، وأنها حتماً سائرة لحتفها. ولولا بقية من رباطة جأش، لنكصت على عقبي ووليت منه فرارا. جبين مقطب، جفون منتفخة، نظرات ثعلبية، وجه جامد، تملأ صفحته الغضون، لا أظن أنه عرف الابتسام يوماً. أوضح لي ( الباشا )، في تلك الزيارة بجلاء، أن اختياري لهذا المنصب، ما هو إلا محاولة من السلطة، لدحض ما يقال من أن المناصب مرهونة لجهة بعينها. وليعلم الناس، أن بإمكان السلطة تعيين أي شخص، من عامة الناس، في منصب دستوري، بصرف النظر عن انتمائه. وأن اختياري تم بتزكية من شخصية معروفة زاملتني في العمل التنظيمي سابقاً، ولها مكان في السلطة الحالية. - على ذلك قالها لي وهو يرمقني بنظرة متفحصة مقتحمة آمرة: - عليك أن تضع في حسبانك، أننا نستطيع إقصائك في لحظة، وأن إقالتك لا تكلفنا رهقا, فانظر أين تقف. يتبع......