كان على الحائط المقابل عدة لوحات معلقة أكثرها بروزاً الملكة القتيلة " آن بولين" والدة الملكة إليازبيث الأولى. زواج آن بولين من الملك هنري الثامن في القرن السادس عشر شكل أعظم التحولات في تاريخ النظام والسلطة والمجتمع البريطاني وبذات القدر كان أثر مقتلها على يد الملك ذاته بتهمة ملفقة "الخيانة العظمى". فظلت آن بولين على مر القرون وما تزال ملهمة للأدباء والرسامين والفقهاء والقانونيين على حد سواء ومثيرة للعبرة والشفقة في الخيالات الجامحة كما الشكوك والظنون والمزيد. كانت هناك طارق على الباب الخارجي في تزامن مع خروج أليكسا من الحمام. إنها ليليان. صوت محرك سيارة البروف إسكوت ميناري كان يتناهي إلى الأسماع خفيضاً عندما كان يقف لوهلة في وداع ليليان قبل أن يرحل دون أن يدخل المنزل. توقفت دوروسي عن طحن الزنجبيل وأتجهت إلى الباب. جاءت أليكسا ناحيتي "أها، هذا هو بيبان، مرحباً بك". نهر الأوز ليس ببعيد من هنا، إنه يلتف بخاصرة البلدة كطوق النجاة، النوافذ المشرعة كانت تأذن لأنفاس النهر بالولوج إلى الصالون في دفقات متتاليات. مدت أليكسا يدها محيية ثم قبلتني ثلاث مرات على الخدين وفق الإتكيت لكن بحرارة صادقة، فأنزاحت أنفاس النهر برهة تفسح المجال لرائحة شامبو الصبار المضمخة بالزيت العطري. في تلك الأثناء كانت ليليان قد فرغت من شعائر تحية روتينية مملة مع فانيسا وشرعت تتقدم ناحيتي. دوروسي منهمكة في إعداد الأرز بالروبيان، أكملت طحن الزنجبيل ثم أعادت رباط المريلة حين شعرتها تنزلق ناحية اليسار: "ساعة واحدة وتكون المائدة جاهزة، أليكسا فعلت كل شيء، شكراً لها، أنا فقط أعد الآن الأرز بالروبيان". كانت دوروسي بالكاد تتوقف عن الكلام دون أن تهتم بردود أفعال الآخرين إلا في الأحوال العملية والضرورية. الشيء الوحيد الذي يخفف من وقع ثرثرتها أن حبالها الصوتية رهيفة وصوتها خفيض جل المرات إلى الحد الذي يجعله همساً. عندما أكتملت لحظة الترحاب المتبادل، ما زلنا أربعتنا وقوفاً وسط الصالون، فانيسا وأليكسا وليليان في كتلة واحدة يهمسن في وجوه بعضهن البعض، يقلن عبارات مضحكة لا أفهمها، يضحكن، ليليان تمسك بيد فانيسا وأليكسا تتكي على كتف ليليان، يضحكن بشهية، فككنا وثاق بعضهن البعض لوهلة مترنحات إلى الوراء من وقع شهقات الضحك، بينما تراجعت أنا نصف متر إلى الوراء أشعر بالغربة وتتناهى إلى مسمعي ثرثرة قادمة من المطبخ، فأنتبهت بغتة على صوت فانيسا: "وأنت؟"، لم أستطع الإجابة على السؤال في الحال كوني لم أكن على وعي تام بالأمر، فدفعتني فانيسا إلى فحوى الموضوع: "ألست سعيداً؟"، "طبعاً، طبعاً، أنا سعيد، سعيد بك، سعيد بكم أجمعين"، في تلك الأثناء وقع ناظري في وجه أليكسا، قبضت عليها متلبسة بالنظرة، كانت تتأملني للحظة فتأملتها بدوري، كانت تنظر ناحيتي وكأنها تبحث، تبحث في دخيلتي عبر سمت الملامح الفيزيائية. أليكسا: مائة وسبعون سنتمتراً أقصر بثلاثة سنتمترات عن فانيسا . كانت تلك المرة في قميص طويل الأكمام في اللون اللبنى الفاتح المائل للأبيض مع بنطلون جينز في اللون البنى يتقاصر ناحية الكاحل حيث يكون الخلخال من الفضة الخالصة وحذاء من الكتان الرمادي محلى بنقاط بنية تتكثف عند مقدمته. خصلات شعرها ذات اللون الزيتوني الطبيعي تتدلي في كتلة واحدة ناحية الظهر متماسكة بفعل بقايا الماء. وعينان صغيرتان زرقاوتان مع ميل للخضرة تحت حواجب رفيعة مستقيمة بميل مفاجي عند الأطراف وشفاه رفيعة حادة النهايات وبشرة داكنة مقارنة بفانيسا تتخللها بقع صغيرة قرمزية في المسافة المرئية من صدرها ذي النهدين الصغيرين. وبرغم ماضيها المشاغب فهي على علاقة مستقرة بالمدير التنفيذي لمنظمة حماية البيئة (ماكسيميليان ريموند) الذي كان تلك الليلة غائباً لأسباب خاصة به. أشارت أليكسا بيدها :"تفضلو بالجلوس"، ثم خطت ناحية دوروسي. أليكسا من طراز فانيسا من حيث التفاصيل الجسمانية، فقط فانيسا ذات خاصرة ضامرة بطريقة تجعلها أشبه بكلب صيد سلوقي أسباني كما صدرها أكبر مما لدى أليكسا. غير أن أليكسا وحشية العبارة في الضد من فانيسا وذات دربة في الحياة تفوق فانيسا عدة فراسخ ليس بواقع حساب العمر، ذاك ليس بالأمر المهم، سنة ونصف، لكن جراء الحياة المغامرة التي عاشتها أليكسا في صباها والأحداث الكثيرة غير العادية التي مرت بها. ولكل هذه الخواص وأخرى فإن أليكسا تكون صاحبة المبادرة في كثير من المرات. "هيا بنا إلى المائدة" صاحت دوروسي . وفي اللحظة التي تحلقنا حول المائدة وقبل أن نمد أيادينا إلى الطعام شرعت دوروسي تصلي كعادتها عند كل لحظة طعام: " تباركت يا رب .. ارفع عقولنا إليك كل حين لطلب طعامنا الروحي غير البائد. اعطنا أن نعمل للطعام الباقي للحياة الأبدية، وهَب لنا نصيبًا في الاشتراك في وليمتك السمائية. امنحنا خبز البهجة، وكأس الخلاص، واملأ قلوبنا من البهجة والفرح. انعم علينا بحياة مطمئنة هادئة، وسعادة في النفس، وصحة في الجسد. علمنا أن نطلب رضاك في كل شيء، حتى إذا أكلنا أو شربنا أو عملنا أي شيء، نعمله لمجد اسمك القدوس، لأن لك المجد إلى الأبد... آمين". دوروسي إنجيلية صارمة، كرست جل حياتها من أجل الكنيسة، كما مساعدة أبناء أختها الصغرى المتوفية كورا، فهي شديدة العناية بأليكسا وشقيقيها الأصغرين، عاقر لم تلد ولم تتزوج. قبل بلوغ العشرين أزيل رحمها في عملية جراحية بعد أن تأكدت أصابتها بسرطان في عنق الرحم. "نحن لسنا كلنا مؤمنين على طريقتك يا خالة" قالت أليكسا تلك العبارة بحذر وكأنها تحاول أن تخفف من وقع الملل الذي أصاب الناس من جراء الصلاة الطويلة التي أدتها دوروسي بتلقائية ودون إذن أحد. ثم واصلت أليكسا مستقلة لحظة الصمت والإرتباك "أنا شخصياً غير مؤمنة البتة وليس لي"، قاطعتها دوروسي: " وجب على الإنسان أن يصلي لأجل نفسه ولأجل الآخرين، يصلي من أجل الأقرباء والأصدقاء وحتى الأعداء، فما بالكم وأنتم جميعكم أحبابي". تمتمت ليليان ثم قالت بلا إكتراث "أنا لا أهتم". قالت فانيسا "أنا أيضاً لست مؤمنة لكنني على قناعة محددة بوجود عقل منظم لهذا الكون" ثم ضربتني بساعدها على كتفي بدلال بينما تقول: "بيبان أيضاً يصلي، إنه يصلي من أجل الكون، الأكوان كلها" ضحكت فانيسا وليليان في ذات الوقت وشرعنا من بعدها في العشاء. يتواصل.. حكايتي مع الشابة الإنجليزية فانيسا أو الإنفجار الكوني العظيم/بيق بانق.. محمد جمال الدين [email protected]