إستيقظت من نومى على صوت صفارة هاتفى الجوال الصغير . رنة أعرفها جيدا . رسالة ما . ألمح الإسم فابتسم . عارف حمدان صديق الزمن الجميل . ألقى على الرسالة نظرة سريعة فتبدأ حرفها تهتز " جميل آخر يرحل عن بلادى . فى ذمة الله الموسيقار العظيم محمدية " . عفوا يا صديقى المتنبئ . لست وحدك من يفزغ بآماله الى الكذب حين يطوى الجزيرة و يجئه خبر فاجعة !! لم تكن الكمنجة بين يدي محمدية قطعة من خشب صماء ، لكنها كنت كائنا حيا حقيقيا . كان يمسكها بين يديها كما طفلته ، يضع رأسها على كتفه و قد يميل رأسه مسندا اياه حافتها ، ثم تبدأ يده فى العزف ، تخرج من رحم العدم نغمة صغيرة ، ثم تليها أخرى فثالثة ، تسند كل واحدة صويحباتها فاذا بشلالات من نغم وريف تتدفق كما المطر على نوافذ بيوت المدينة ، و رأسه –محمدية – بين ذلك تتراقص طربا مع كل زخة عطر ترشها الكمنجة ، بينما ابتسامته الطيبة تتدفق فى ثنايا المكان . لقد كان محمدية لحنا عبقريا فى كل تفاصيل حياته . قبل خمس عشرة عاما تقريبا التقيته لآخر مرة فى نادى ببرى . لم ألتقه بعدها وجها لوجه فقد حزمت حقائبى و قررت ان ابعثر سنى عمرى طائعا فى بلاد ما . كان محمدية وقتها يحى حفلة مع الفنان على ابراهيم اللحو . فى الاستراحة بين الفاصلين ذهبت اليه . كان برفقة العازف العظيم عبدالله عربى . حييتهما بحب حقيقى . كلاهما يتدفق حنية عجيبة و كأنه نغمة من طنبور أو بيت من شعر نظمه شاعر شايقى . من بين خبايا الذاكرة أذكر أننى سمعت عبد الله عربى مرة ينشج كما الأطفال حينما طلب وردى ان يتحدث اليه عبر الهاتف النقال .كان وقتها الفرعون يتعثر فى أثواب شجنه الكثيف فى منفاه فى بلاد العم سام . ليست هذه قصة أخرى كما يقول "محيميد " فى "موسم الهجرة الى الشمال . فحياة محمدية ظلت تتأبط ذراع حياة عبدالله عربى منذ الستينات . قلت حييتهما بود وطفقت أسألهما عن رأيهما فى بعض الأصوات الجديدة وقتها . أعرف عشق الاثنين لوردى و لعثمان حسين . و لذا و حينما طلبت منهما أن يعزفا لى شيئا ، نظر كلاهما الى الآخر لثوان ، ثم ابتسما و أخذا يعزفان المقطع الشهير " خوفى تنسانى و تنسى الليالى " فى رائعة " لو بهمسة " لنيل بلادى الثانى " محمد وردى " . لم يكن مصادفة أن يولد محمدية على شاطئ البحر مثلما لم تكن مصادفة أن يولد الحلنقى بين أحضان الاشجار فى كسلا . ثمة إنسان يختصر المكان الذى يولدون فيه تفاصيل حيواتهم . فى أوائل الاربعينات ، و فى أسرة تنتمى جذورها الى قبيلة الهوسة الشهيرة ، إستيقظت بورتسودان على صياح الصبى " محمد عبدالله أبكر " ، والذى قدر له فيما بعد ان يكون له ثلاثة رفقاء فى الكون : لقبه " محمدية " ، و كمنجته و ابتسامته الصافية . قال فى إحدى اللقاءات الإذاعية أنه كان عاشقا لكرة القدم فى صباه ، و قفز على سلالم هوايته حتى وصل الى فريق " الثغر " . فى بواكير سنيه عشق العزف على آلة الصفارة . ثم تحول منها إلى العود فالكمان الذى تحول الى صديقه فى رحلة الوجود . بزغ نجمه مدينته فى الخمسينات . و بدأ يتعرف على الوسط الفنى فى الخرطوم من خلال زيارات الفنان الرواد الى بورتسودان . و فى إحداها قابله " محمد وردى " و استمع اليه و اعجب بقدرته الهائلة على العزف على الكمان ، فطلب منه ان ينتقل الى الخرطوم ، ففعل و كان ذلك فى أواخر الخمسينات على الأرجح . ظل محمدية رقما ثابتا فى كل روائع الغناء السودانى منذ الستينات و الى رحيله . لكنه أشتهر أكثر بملازمته لوردى وعثمان حسين . وكان بجانب رفيق دربه عبدالله عربى ثابتين فى أعمال مثل " الطير المهاجر " و " لو بهمسة " و "الحبيب العائد " و " ضنين الوعد " " و شجن " و غيرها ، لكنه لم يكن يخفى اعجابه و فخره بمشاركته فى رائعة " الحزن القديم " لمحمد وردى . لم تقتصر مساهمات محمدية على العزف فقط ، لكن كان يبدى رأيا ثاقبا فى أعمال الفنانين الكبار الجديدة وذلك اثناء ما كان يعرف حينها " بالورش "الفنية . و كثيرا ما تمت إضافة نغمة ما أوتعديل أخرى إثر مداخلة من محمدية أو عربى . لم يعتمد محمدية فقط على مهارته المذهلة فى العزف على الكمان ، بل صقل ذلك بالدراسة فى مصر و ألمانيا . كما أنه عرف بسعيه الدؤوب لتثقيف نفسه كثيرا و قد التقيت به مرة وهو يدرس اللغة الألمانية فى معهد جوته بالخرطوم . و حتى حين يتحدث اللغة العربية تلمح على رمال كلامته آثار أطلاع لا تخطئه العين . اشتهر محمدية بابتسامته الطفولية العذبة ، و اشتهر بدماثة الخلق و التواضع ولعل الكثيرين لا يعملون ان خزائن الرجل ملأى بجوائز عالمية كثر . لم يكن محمدية عازفا عاديا ، لكنه رجل ظل يحترف اسعاد شعب لطالما احترف ساسته إتعاسه . تقول الاسطورة اليونانية إن الفيسلوف اليونانى " ديوجين " كان يحمل مصباحه فى وضح النهار . و كلما سأله سائل عم يبحث يرد عليه بهدوء " أبحث عن الرجل " . هكذا كان محمدية ، تنقر عصفور كمنجته الفريدة فى تراب احزاننا لتلتقط فرحا منسيا او لحظة بشارة طمرتها الحرب . ظلت كمنجاه مساحة تلتقى عليها امزجة شعب فرقته السياسة . لم يكن محمدية ملكا لشرق السودان فقط ، كان حينما يعزف وراء عثمان حسين يهش نخيل الشمال ، وحينما يعزف وراء عبدالرحمن عبدالله يرقص رمال كردفان ، و حينما يداعب كمنجاه وراء التاج مكى تتعثر غيمة على جبال التاكا و تشهق كسلا عند خصر القاش كعذراء فاجأها الموسم . فى أخريات أيامه عاش محمدية منعزلا عن الناس . وعانى كما عانى الموسيقار ناجى القدسى قبل رحيله ، و ذكر لى صديق إعلامى أن رفض التحدث الى الكثير من الاعلاميين وقتئذ . و مرت أيامه الأخيرة فى وحدة قاسية لا تقطعها سوى زيارات الاصدقاء من الوسط الفنى ، فالمقربون من الراحل يدركون انه لم يتزوج فى حياته و كرسها كلها للموسيقى . ثم اشتد عليه المرض ، هذا غير أن بلادى كثيرا ما أدارت ظهرها لعباقرتها فى أيامهم الأخيرة ، فماتوا فى صمت و إهمال ، شهدنا هذا مع خضر بشير و العاقب محمد الحسن ومحمد وردى و زيدان و غيرهم . رحيل محمدية يعنى أن عمودا ضخما فى محراب الموسيقى السودانية قد سفط . رحيل محمدية يعنى ان أسراب عصافير ملونة قد تركت آفاق بلادى و يممت صوب بلاد مجهولة ، ويعنى أن نهرا من جمال عظيم قد كف عن الهدير . صديقى الجميل محمدية ....لا أقول لك فى مثل هذه الأيام الطيبة سوى " عليك شآبيب رحمة لا تنقطع ما ارتفع مناد لصلاة . آمين " .............. مهدى يوسف ابراهيم جدة الاربعاء 16 مايو 2014 [email protected]