تتساءل عن سر جلوسنا الدائم على هذه الرمال الحارقة . نحن ننتظره يا بنى . نحلم ان يخرج لنا من بين تلافيف الرمال أو بين ثنيات السراب البعيد . اجلس معنا قليلا و دعني أحكى لك عنه : عن روح القرية التى أزهقوها . لا نعرف يا ابني من أين اتى على وجه التحديد . مثله مثل الشمس التى تشرق علينا كل صباح . منذ طفولتنا و نحن نطلق عليه " ود المطرة " . حكى لى اجدادى أن قريتنا كانت - قديما - بقعة مجدبة لا يكاد يتلتفت اليها احد . حتى عابرى السبيل كانوا لا يأبهون بها . و لذا اطلق عليها سكان القرى المجاورة اسم " موت الراكب " كناية عن ان المسافر لا يجد بها سوى سكينة الموت . كنا يا بنى نعيش فى بيوت من طين و قش ، لا تكاد تقينا شراسة زمهرير الشتاء و لا وحشية شمس الصيف . كانت "رواكيبنا" مشاوير من هم تقود الى بيوت أجداث . و كانت مزارعنا لا تخضر الا بأعجوبة . و لا تكاد أرض أحدنا تنبت شيئا من الخيرات حتى تلم بيها مصيبة من مصائب الله : بهائم تقضى على الأخضر و اليابس ، أو شمس ظامئة الشعاع تورث النبت اصفرارا لا نجاة منه : او حتى بخل من غيوم السماء التى تلوح فى الافق لدقائق ، و ( تحندك ) مزارعنا قليلا قبل ان تحزم حقائبها و تيمم شطر بلدان اخرى . بل انه ذات خريف سقطت صاعقة على مدرسة القرية الوحيدة فتركتها صعيدا زلقا . و حطمت جزءا من خلوة القرآن التى كان يرتادها بعض صبياننا مما جعل بعض ضعاف النفوس يتزمرون . جعنا يا بنى حتى نسينا طعم الأكل . و هدنا العطش حتى بهتت فى ذاوكر شفاهنا ملامح الماء . و اصبنا بالعرى حتى حسب بعضنا ان الاصل فى الانسان هو العرى . صار صغارنا يتسولون "اللوارى" التى تسلك الدروب المؤدية الى مشارف القرية الجنوبية فلا يلقون سوى غبار الاطارات و صيحات استهجان المسافرين . تهدمت بيوتنا و جفت ضروع بهائمنا فكفت بقية القرى عن مصاهرتنا . اذكر مرة أن رجلا من قرية مجاورة تزوج منا ، لكنه طلق عروسته بعد يومين لانه لم يحتمل سخرية اهله منه حين علموا اصلها. كما اذكر انه ذات يوم ذهب ابن اخ لى خاطبا حسناء من قرية مجاورة . استقبله اهلها بترحاب و استبشار . لكن والدها – و حين علم ان صهر المستقبل هو من قرية " موت الراكب " – خلع حذائه عن رجله اليسرى و رمى به فى وجع العريس المسكين و شفتاه ترسلان ارتالا من الشتيمة و السباب . بل – و اصدقك القول يا بنى - ان الحكام صاروا لا يمرون على قريتنا فى حملاتهم الانتخابية تلك التى يكذبون فيها حتى على الحجر و يستجدون فيها حتى اصوات الصمت ! . مرت بنا سنوات عجاف . فرحل عن القرية من رحل و توفى من توفى و جن من جن . ثم استيقظنا ذات صباح فإذا بطيف قادم يلوح لنا من بعيد . جاء الصغار مهرولين و هم يتصايحون " غريب ، غريب " . هرت ما تبقى من كليباتنا العجفاء . زغدت هياكل من نسميهن ترفقا بنسائنا . و هشت بقية اغصان صفراء فى اشجار القرية . خرج كبارنا لاستقبال الطيف . كنت وقتها فى السابعة من من أكذوبة يسمونها عمرى . صافحناه لا كما نصافح ضيوفا لم نعرفهم يوما ، و لكن كما يصافح الضيف الجائع مضيفه الكريم . جلس بيننا و هو يلهث من الظمأ . نظرنا اليه فاذا به فى الستينات من عمره . ابيض الشعر ، كث الحواجب ، على خده الايمن اثر جرح قديم و في عينيه وداعة و سكينة عظيمتان . قدمنا إليه بعضا من ماء عكر فاحتساه بابتسامة و همس و هو يلتفت محدقا فى بيوتنا المنصوبة كسرادق العزاء " إذن فهذه هى " زاد الراكب " ! . التفت كل واحد منا الى الثانى فى دهشة . و قال جار لنا مثقف يسخر من جهلنا فى جلسات " السيجة " و " ضالت " : عفوا . لعلك تقصد قرية أخرى . فاسم قريتنا هو " موت الراكب " . نظر اليه الرجل لدقيقة . اتسعت ابتسامته و هتف و هو يقول " بل هى " زاد الراكب " . ثم مد يده بعيدا إلى حيث تنتصب جميزة ضخمة و قال " و هناك سينزل " ود المطرة " . ضحكنا فى سخرية إذ حسبنا أن الرجل ملتاث معتوه . و قال بعضنا ان الشمس تفعل بالرؤوس الافاعيل . احتسى الرجل مائه على عجل ، ثم انتصب واقفا كصارى السفينة . و امسك بعصاه فى قوة و همس و هو يبتعد فى بطء كما جاء " غدا ترون خيرات " ود المطرة " . مضى اليوم كبقية ايام الله رتيبا اخرسا . و حين هبط الليل بجناحيه على رمال القرية آوى كلنا الى فراشة بعد ان ربط بطنه بثوب قديم اتقاء الجوع . مضى جزء من الليل و نحن لا نسمع سوى صياح كلاب القرى المجاورة ، او اصوات اناس تاهوا فى خلاء بعيد . فجأة سمعنا صيحة عالية . هب كل منا من سريره فى دهشة . هتف الصوت " المطر ، المطر " . و قبل ان نفقه ما يقول هطل على القرية مطر لم نره له مثيلا و لا فى حكاوى اجدادانا الكبار . جاءنا سيل عرمرم ، اقتلع الأشجار و هدم البيوت لكنه لم يؤذى احدا من خلق الله على الاطلاق. تعانقت البروق على صفحة السماء كامضاء لرجل اعمال مشغول جدا . و هدرت الرعود كطبول قبائل زنجية . رقصت السماء مع الارض رقصة البقاء الابدية لمدة ساعتين ، بعدهما توقف المطر . و حين تنفس الصبح لم نصدق ما رايناه : لاحت لنا المزارع في اخضرار الفأل الحسن . لفت الشمس ذراعيها حول خصر القرية فى حنو . و تمايلت أشجار لم نعرف من أين أتت مع نسيم عاشق . لكن ما أثار دهشتنا هو حجر ضخم كان يرقد تحت الجميزة الضخمة . بدا لنا لامعا و كأنه خلق من البرق ، نظيفا و كأنه غسل فى نبع سماوى مقدس . فرك كل منا عينيه فى دهشة . كيف لم تسقط الجميزة ؟ و من اين اتى الحجر ؟ فجأة انطلقت زغرودة جارتنا الضريرة و هتفت باعلى صوتها " ود المطرة " . لم ننتبه وقتها الى ان سيدة ضريرة رأته . بل ردد الجميع وراءها فى هستيرية عجيبة " ود المطرة حبابو . ود المطرة حبابو " . أول من ركض إليه كان "حميدان " . كان شابا غبيا خامل الذهن متبلد البصيرة . جلس لامتحانات الشهادة السودانية أكثر من خمس مرات . وكان يرسب بامتياز فى كل مرة . اقترب من الحجر و لمسه برقة . وحين بدأ يحدثنا بعد دقائق عما أحسه ، تدفقت البلاغة من بين شفتيه ينبوعا رقراقا . ذاك الشهر تم قبول "حميدان " فى كلية القانون !!! من ذلك اليوم بدأ عهد جديد فى قريتنا التى صار اسمها "زاد الراكب " . اخضرت مزارعنا و قامت على مشارف قريتنا مصانع عديدة . صارت مدارسنا تعج بالوافدين من كل فج عميق . اكتظت أسواقنا بخيرات لا تحصى . نمت اشجارنا حتى نافست الافاق فى الشموخ . عرفت بطوننا اللحوم بعد الجوع و احتسينا ما لذ وطاب من مشروبات متنوعة . سكنا فى بيوت مبنية من الطوب الأحمر و الخرصان . و صاهرنا الرجال حتى اضحت البنت منا لا تكاد تبلغ ( ضواحى ) الحلم إلا و عقد قرانها على شاب من قرية مجاورة . عرفت بيوتنا الثلاجات و البوتاجازات . أصبحت خلوتنا قبلة لدارسي القرآن حتى من خارج حدود ما عرفنا انه وطن . و انضم إلى جمعيتنا التعاونية أقوام كانوا يأنفون من إلقاء التحية علينا . غدا الذهاب الى المسجد لذة بعد أن كان واجبا ثقيلا . تخرج العشرات من أبنائنا فى كليات الطب والصيدلة و القانون . باختصار يا بنى : اغتنى كل فرد منا . و حمل الفقر جرابه و عصاه و هجر ديارنا . بل إنه بعد أسبوع واحد فقط من انبلاج " ود المطرة " ، زارنا شخص مهم في زيارة تفقدية . وقف امامنا طويلا عريضا ممتلئا لحما و شحما . سالنا عنه احد مرافقيه فقال في همس و عتاب "هذا رئيس الجمهورية " . وقف ( سيادته ) على تلة عالية فى منتصف القرية وحدثنا عن حرصه الشديد عن الاهتمام بنا و بالريف المجاور لنا . و لقد رأيت بأم عيني هاتين صورتي فى جريدة الدولة الرسمية ذاك اليوم الذى وصفوه بالأغر . أما " ود المطرة " فقد غدا قبلة لكل صاحب حاجة . تذهب إليه العانس فتتزوج بعد أسبوع . تقصده من اخبرها الأطباء باستحالة إنجابها فتحس باهتزاز قدمى صغيرها فى غياهب رحمها بعد شهرين فقط . يمسه المجذوم فيعود سليما معافى . و يسن على حافته التلاميذ الصغار حواف أقلامهم فيحرزون أعلى الدرجات فى مدارسهم . يشكو مزارع من جدب فى أرضه فيحمل من " ود المطرة " قطعة صغيرة يسحنها على تربة أرضه فتغدو جنة غناء فى أسبوعين . يشكو شاب من صد فتاة فيسقيها قطرة ماء تدفقت تحت " ود المطرة " فتهيم بحبه الى مصاف الجنون . غدا الحجر قلب بلدتنا النابض . اختفت الجرائم تماما فأغلق المخفر أبوابه و تحول العسكر إلى فلاحة الأرض . و اختفت الأمراض حتى أوشك الأطباء على نسيان مهنتهم . مضت بنا الحياة رقيقة سلسلة لاعوام عديدة حتى حل علينا ذات يوم ضيف جهلول قال انه مرشح حزب ما . حدثنا عن انه ينتوى – فى حال اكتسح حزبه الانتخابات – أن يحرر عقولنا من سطوة " ود المطرة " . قذفناه بأحذيتنا فركض هاربا . لكن ذاك العام شهد قدوم وفد حكومى لنا . جاءنا فى عربتين مدججتين بالسلاح . و قبل أن نفقه شيئا توجه العساكر إلى " ود المطرة " فأمطروه وابلا من الرصاص . تطاير منه الشرر فى البدء . ثم انقسم إلى نصفين حين توالى عليه رسول الموت و الدمار . ناحت الأشجار وقتها . لاحت على مشارف القرية رمال لم نعلم من أين أتت . و تجمعت سحابة سوداء كالسخام على صفحة الأفق . بعد أسبوع واحد فقط تغير كل شئ . اندثرت المزارع و تهاوت المصانع . احترقت الأشجار و ماتت البهائم فجأة . عادت الجرائم ثانية إلى القرية فعاد الجنود لممارسة مهنتهم القديمة : حفظ الأمن .ظهرت الأوبئة ثانية . طلقت كل النساء اللوات تزوجن آناء عهد " ود المطرة " و تشرد أبناؤهن . هجرتنا بقية القرى . وعاد إلى قريتنا اسمها القديم " موت الراكب " . ومن يومها يا بنى ونحن نجلس كل صباح سويا على رمال القرية كما ترى . نجوب الأفق بنظراتنا وقلوبنا و نحن نتساءل بحسرة " أترى سيعود " ود المطرة " ثانية لنا ؟ ................. مهدى يوسف ابراهيم [email protected]