قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    آمال ليفربول في اللقب تتضاءل عند محطة وست هام    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    مناوي: أهل دارفور يستعدون لتحرير الإقليم بأكمله وليس الفاشر فقط    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    هل فشل مشروع السوباط..!؟    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يسألونك عن المهدية قل إنها الثورة حقاً ولكن
نشر في الراكوبة يوم 24 - 08 - 2014

بعض الناس يأتون بالخوارق والمعجزات، ويصنعون التاريخ من عدم، فينالوا الحب والإعجاب، والإحترام والتقدير، ويلتف الناس حولهم، فيتبعهم ويطييعهم البر والفاجر، العالم والجاهل، الصغير والكبير، والكل يفتديهم بنفسه وماله، وأهله وولده، ويفتح لهم التارخ صفحاته ليكتبهم في سفر الخلود،
والإمام المهدي أحد هؤلاء الأفذاذ. خرج من أهله وحيدا، وإرتحل بعيداً، وعاش غريبا، يطلب العلم، زاهدا يخلص العبادة لله ، لم يكن قبل ثورته المهدية زعيما تتبعه وتنصره قبيله، ولم يكن قبلها شيخا يلتف حوله الحيران والمريدين، إنما كان طالب علم، وحواراً مريداً لشيوخ عاش في كنفهم معظم حياته. فبعد أن حفظ القرآن فقد درس النحو والفقه والتوحيد، في مسيد ود عيسي بالجزيرة، لدي الشيخ الأمين الصويلح، ثم بخلاوي الغبش قرب بربر، لدي الشيخ محمد خير، ثم تتلمذ علي الأستاذ محمد شريف نور الدائم، حفيد الشيخ الطيب صاحب الطريقة السمانية في أم مرحي نحو عشرون عاما، ولما تخاصما إلتحق بالشيخ القرشي ودالزين شيخ الطريقة السمانية بالحلاويين بالجزيرة، وأقام عنده حيناً، وبالجزيرة أبا أحيانا،ً وبعد وفاة الشيخ القرشي إبتدأ دعوته المهدية بأنه المهدي المنتظر. وقد صار له قبلها بعض الأتباع والمريدين فقد إشتهر بصلاحه وزهده وتقواه، فكانت الناس تقصده بالجزيرة أبا للتبرك به وليدعوا الله لهم بما همهم
بالرغم من أن حياة المهدي لم تدم أكثر من أربع سنوات، منذ إبتداء دعوته وثورته المهدية لحين وفاته، إلا أن شهرته طبقت الآفاق، وإجتمع حوله مئات الآلاف من الناس، وبايعته الملايين، في عهد ليس فيه لا صحافة ولا إعلام، ولا إذاعة ولا تلفزيون، وكانت وسيلة الإتصال الجماهيري الوحيدة حداث يكلم حداث، وأن ينقل الأخبار من لا يعتاش عليها، ومن لم يوظف لنشرها، وإنتشر خبر الدعوة والداعية، الذي كان مبتداه داعيا لمهديته سراً في 29/6/ 1881 م وتوفي يوم 22/6/ 1885 م بعد فتح الخرطوم بأربعة أشهر وقد أكمل تحرير بلاده وإن لم تطول حياته ليكمل ترتيب دولته، ولم يجاوز عمره 42 عاما، قضي معظمه منقطعا للعلم والعبادة، وقد أجمع الناس، شيوخا وأتباع، علي ورعه وزهده وتقواه. وقد كان مولده في جزيرة لبب قرب دنقلا سنة 1843 م لأسرة تنتسب للأشراف أحفاد الرسول (ص) من أحفاد فاطمة الزهراء وعلي بن طالب رضي الله عنهما
سريعا إنتقلت الدعوة من السر الي العلن، وشاع أمرها بين الناس حتي وصلت الحكام، وكان المهدي وقتها بالجزيرة أبا، التي كان قد هاجر اليها مع إخوته، بسبب عملهم لا بسبب دعوته، وقد إجتمع عليه بعض المريدين والأتباع والتلاميذ، فكاتب الشيوخ والعلماء والزعماء أنه المهدي المنتظر، إلا أن تصديقهم تأخر، ولكن من العامة من صدق به. .فأرسلت الحكومة تستدعيه وقد شغلها أمر الدعوة، وهمها وأقلقها أمر الداعية، فعصي أمرها، ولم يلبي طلبها، وأبي الذهاب إليها، فأرسلت قوة للقبض عليه ومن كان معه من أتباعه، فكانت تلك أولي معاركه ضد الحكم التركي المصري، ولكن تمكن المهدي من القضاء علي الحملة المرسلة للقبض عليه وأتباعه، فقتل معظم جنودها وغنم أسلحتها؛ وكان ذلك في 12 أغسطس 1881 م ولكنه علم أن أبا لم تعد داراً آمنة، وحتما ستعمل الحكومة للقضاء عليه، ثأراً لمن قتل، وإنتقاماً وعقاباً علي ما صنع، وتخلصاً من دعواه، وعبرة لسواه .
فكانت الهجرة أمراً لا بد منه، فقصد المهدي جبل قدير والحكومة تلاحقه، وقد عد أصحابه نصره علي الحكومة في أبا من كرامات الصالحين. كما كان نصره الثاني في أُولي وقائعه في قدير، وهي معركة راشد بك التي جرت في 28/12/ 1881 م كرامة أخري، ودليل آخر أنه المهدي المنتظر، وأنه ينصر بالقليل، ويعود فضل النصر فيها بعد الله لرابحة الكنانية التي نقلت خبر الحملة للمهدي، فقد وصلت الليل بالنهار سيرا لتسبقها، ومكنت المهدي من مفاجأة راشد بك بدل أن يفاجأ به، وقتل فيها راشد بك وجنده، وغنم الأنصار مؤنه وماله وعتاده، وكانوا في ضنك وحاجة فكانت الغنائم رزق ساقه الله اليهم، وأصبحت الكرامة كرامتين. وكانت الثالثة عندما وقعت بعدها معركة الشلالي التي إستعدت لها الحكومة بالعتاد والسلاح، والجنود المجندة المدربة، وسلحتهم بالبنادق والمدافع والصواريخ. والمهدي وصحبه سلاحهم السيوف والحراب. وحتي البنادق التي غنموها لم يألفوها ولم يستعملوها ففي فجر 29/5/1882 م صنع المهدي نصرا جديدا، وأضاف الي كراماته معجزة، فقد هزمت الإرادة والعزيمة القوة القاشمة، وأخرست السيوف البنادق والمدافع. والغريب كانت خسائر الأنصار دوما في حدها الأدني، قتلوا الشلالي والآلاف الكثيرة من جنوده المسلحين المدربين، وخسارة الأنصار لم تزد علي مئتي شهيد، وغنم المهدي آلاف البنادق والمدافع، وأطنان الذخائر والأزواد، والأموال والدواب، وقد كانت ناقلات ذلك الزمان، فهي من تحمل الجنود وعدتهم وعتادهم، وفيها الحمير والخيول والبقال والجمال.
وكان النصر نقطة تحول نقلت المهدي من مطارد ومدافع لمهاجم، وقد طبقت شهرته الآفاق، وشاع وذاع أمره بين الناس ليعم السودان، أنه المهدي المنتظر من كذبه كفر، ومن حاربه خسر، ومن لم يبايعه أصبح في خطر، ماله غنيمة ودمهُ هدر. فهاجر الناس اليه بعشرات الآلاف حتي ضاق بهم قدير، فعزم المهدي المسير بهم الي مكان أرحب، فخرج في 28/7/1882 م غازيا الأبيض، يرجو دخولها وفتحها بحد السيف، ولكنها إستعصت عليه، فرجع عنها وقد قتل الآلاف من أتباعه، وإستشهد إثنان من إخوته وبعض أشراف أنصاره، وطعنت في صدق مقولة أنه لا يهزم. وكان حتي ذلك الوقت سلاحه السيف والحربة ولكن خندق الأبيض وحصنها حيدتها، وحالت بينه وبين جندها، وحبسته وجنده خارج المدينة، تدكه مدافع الحامية، ويحصد رصاص جندها أرواح أنصاره؛ ورماح صحبه وحرابهم وسيوفهم لا تطول شيئا. فكانت وقعة الأبيض في 8 سبتمبر 1882م هزيمة قاسية للمهدي، ولكنها علمته درسا مهما في المعارك والحروب، أدرك بعده المهدي أنه مثلما لكل مقام مقال، فلكل ميدان سلاح، فما يصلح لمعركة قد لا يصلح لسواها؛ فحتي البنادق مذودة بنصال تكون عند الإلتحام هي مايعول عليه لا الرصاص، وأن السيوف والرماح تذهب ببأسها الخنادق والمسافة والحصون، فتصبح بلا فائدة وأن الأسلحة النارية لا بديل عنها أحياناً. فأرسل لقدير من يأتيه بالأسلحة النارية التي تركها هناك، ظناً بعدم حاجته اليها، وعدل عن إقتحام الأبيض لمحاصرتها، وإنتقل المهدي سريعا لحصارها، والتضييق عليها حتي إستسلمت له في 19 يناير 1883م، وقد سبقتها بارا، ولحقتها دارفور .
عند ذلك أصبح للمهدي دولة لها أرض وشعب، وسلاح وجند. وأصبحت المهدية قوة عظيمة، تخشاها حكومة الخرطوم التركية المصرية، وتهفوا نفوس السودانيين في طول البلاد وعرضها للإلتحاق بها ومبايعة إمامها المنصور، فسكنت القلوب والألباب، وملكت الحناجر والمشاعر، وإزداد المهدي قناعة أنه منصور لا محاله، وخصمه مقهور مدحور مهما أعد وإستعد للقائه، وكان ذلك ما يراه صحبه وتابعيه. ولكن أم معارك المهدية وفصل الخطاب فيها كان معركة شيكان، وما أدراك ماشيكان.
هدمت هذه المعركة التي لم تدم أكثر من ساعة أو ساعتين، كل نظريات الحرب، وتخطت المعقول الي اللامعقول، وما يصدق لما يصعب تصديقه، فقد إستعد الحلفاء لهذه المعركة جيداً، وقد أخذوا وقتهم في تجهيز وإعداد كل مطلوبات النصر. فندبوا من القادة من شهدت لهم ساحات المعارك بالتميز وحسن التصرف والعزيمة، من خريجي كليات الحرب البريطانية والأوربية، وعلي رأسهم هكس باشا، وكثير من الضباط الإنجليز والمصريين، وجندوا لها آلاف المقاتلين المدربين، وسلحوهم بآخر ما أنتجته أوربا من أسلحة القتال، وأدوات الدمار، فإختاروا لها أفضل الأسلحة وأفتكها، وفوق ذلك ذودوهم بحاجتهم وذيادة من الزاد والعتاد، وأرسلوهم من بريطانيا ومصر خصوصا للقضاء علي المهدي والمهدية وهم موقنون بالنصر. ولتصور ضخامة الحملة لك أن تعلم أنه يحمل عتادها وبعض جنودها 5500 جمل و5000 فرس و10,000 حمار و3000 بقل. إضافة لما يحمله المشاة من الجنود من سلاح وعتاد ولكن النصر كان للإرادة لا العتاد وللعزيمة لا السلاح، ولحكمة المهدي وفطنته وعبقريته العسكرية. فقد صنع هذا الرجل نصراً لم يسبقه عليه أحد من الناس فقد أباد جيشا عن آخره، وقتل نحو عشرين ألفا أو يزيد وخسارته نحو مئتي شهيد، وذلك ما أعجز العقل وإستعصي علي الفهم فقد إلتقي الجيشان نهاراً جهاراً، وقد سعي كلاهم يطلب الآخر، وكل جيش ينظر خصمه حتي إلتحامهما. أي عبقرية تصنع مثل ذلك، وكل زادها زهد وتقوي لم يدخل صاحبها كليات الحرب، ولا مدارس القادة والأركان، ولم يتدرج محاربا في جيوش الغزو والحرب، إنما رجل عابد كل سلاحه التوكل علي الله، وصدق الدعاء وحسن التصرف، وصحبه وجنده رجال ألفت أصابعهم المسابح لا البنادق، وقرح جباههم السجود، وألسنتهم رطبة بذكر الله، وسلاحهم الرماح والسيوف وبنادق غنموها لم يشتروها ولم يألفوها، وأكثرهم يجهل كيف تعمل وكيف تقتل. فكانت معركة شيكان التي قتل فيها هكس وكل جيشه في 5نوفمبر 1883م درع التميز، وبرهان التفرد للثورة المهدية .
وإعجاز المهدي في شيكان، تمكنه من إبادة جيش كامل فيه عشرات الألوف، من المقاتلين المسلحين والمدربين، بواسطة جيش ينقصه التسليح، وينعدم لديه التدريب لدرجة تسمية جنوده بالدراويش، فيخرج الدراويش دون خسارة وتلحق بالمدربين المسلحين الإبادة (قدر المهدي نفسه في رسالة لعثمان دقنة قتلي جيش هكس ب 36000 قتيل والأنصار ب 200 شهيد) والنادر في التاريخ إبادة جيش بتلك القوة والعدد، مقابل خسائر قليلة لاتكاد تذكر للطرف الآخر رغم فارق القوة للمهزوم، لذلك أري أن معركة شيكان أجدر كثيراً بالإحتفاء والفخر بها أكثر كثيرا من معركة كرري، فقد تشابهت المعركتين في الجند والإعداد ولكن تبدل النصر الساحق بالهذيمة الماحقة فأطراف المعركة في كلاهما لم يتغيرا وإختلال ميزان القوة ثابت لم يتبدل ففي كلاهما كانت العزيمة والشجاعة والبسالة والفداء والسيوف والرماح وبعض البنادق سلاح جند المهدية، في مواجهة الآلة الحربية الضخمة الحديثة، والجنود المدربة، والخطط المجربة، ولكن غاب في كرري صانع النصر المهم. غابت حكمة المهدي وغاب قادته العظام، الذين صنعوا إنتصاراته في كل مدن السودان. فكانت الهزيمة في كرري بديلاً لنصر شيكان ومثلما كانت شيكان شهادة ميلاد دولة المهدية، وتحرير السودان كانت كرري شهادة موتها التي أعادت المستعمر لحكم البلاد .
وبعد شيكان أدرك حكام السودان يومها المصريون وخلفهم الأترك والإنجليز، أن هذيمة الثورة المهدية أصبحت طلبا صعب المنال. وأن إستمرار حكمهم للسودان دونه المهج والأرواح. فقنعوا من الغنيمة بالإياب. فأرسلوا غردون باشا للخرطوم لإجلاء الأجانب، وتسليم الحكم لإدارة سودانية.
أيضاً كان نصر شيكان البرهان القاطع، والدليل الحاسم لكل متشكك في أن محمد أحمد المهدي هو المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً وأنه منصور من الله فلا غالب له. فبايعه كل متشكك وبادر إليه كل متردد. وبعد شيكان تطلع المهدي نحو المركز فكان لابد من إخضاع الخرطوم وإن تمنعت، كما علم المهدي بعدها أن السودان كله قد دان له فرمي ببصره لما وراء حدود السودان .
وكان زحف المهدي نحو الخرطوم في أبريل 1884م فأرسل من يحاصرها، وأقام عدة أشهر بالرهد ينتظر مايفعل غردون بقادته الذين أرسلهم لحصاره ومايفعلون به، وفي أغسطس 1884م قصد المهدي الخرطوم، فوصل أبوسعد قرب أمدرمان في أكتوبر 1884م وشدد الحصار علي الخرطوم، ولم يبادر بإقتحامها مخافة أن تتكرر هزيمة الأبيض، فكان يضيق عليها الحصار ينتظر إستسلامها، وغردون صامد يصبر أهلها، والعيون ترغب النجدة الإنجليزية، ولكن المشورة وحكمة المهدي تحسم الأمر، فنجدة الإنجليز وصلت تخوم الخرطوم، وأهل الخرطوم المحاصرين فيها بلغ بهم الجوع والجهد مداه، فأكلوا الحمير والكلاب والجلود وكل ما يؤكل وما لا يؤكل، فإن وصلتهم النجدة، رفعت عنهم الضر وسمت بروحهم المعنوية وكثرتهم وسلحتهم، وأصبح ممكن اليوم مستحيلاً غداً، فكان الإقتحام ودخول الأنصار الخرطوم وقتل غردون في 26 يناير 1885 م
وكان أيضا نصراً سهلاً لم يدفع الأنصار فيه كثير ثمن، ولو تأخر لما تم وإن تم كانت ستكون خسائره فادحة، فكان إقتحام الخرطوم وتوقيته أيضاً دليل ساطع علي حنكة المهدي العسكرية، وحكمة قيادته بأن لا يورد جنده المهالك، فيحجم ليتقي الضرر، ويقدم حين يكون الإقدام ضرورة، وتلك هي القيادة الرشيدة التي يجلها ويفاخر بها من يتبعها، ويحترمها ويقدرها من يعارضها.
دخل المهدي الخرطوم وخرج منها سريعا، وقد إختار أمدرمان عاصمة الخلافة المهدية، ولكن مشيئة الله وقدره كان أن يعيش المهدي أربع سنوات محاربا لإقامة الدولة المهدية، ويحكمها لأربعة أشهر فقط، ويوصي بالخلافة فيها لمن لا يربطه به دم ولانسب. ومات المهدي في 22 يونيو 1885م ، وماتت المهدية بعد موته بقليل، وقد قتلها الخوف والحسد والطمع، فالخليفة محسود في إرثه وخائف علي ملكه، وهناك من هو حاسد وطامع، ومن يري أنه أحق بالتركة من سواه وأصلح للملك من الخليفة، فإستنصر الخليفة بأهله وقبيلته وأهل ثقته وذكائه ودهائه وشدته وسيفه، ولسان حاله يقول من ليس معي فهو ضدي، فلا يعترف بمحايد أو مسالم، ولزعماء القبائل الخيار بين رضاء الخليفة وسيفه وفرض الإقامة الجبرية عليهم في أمدرمان تحت بصره طائعين ومن أبي تكفل سيف الخليفة بجلب رأسه ليعلق في أم درمان، ليري الناس عقاب وعاقبة من يعصي للخليفة أمرا وكان حوش الخليفة الذي يتربع اليوم في وسط أمدرمان، ولا يمتلئ بالناس إلا في المولد النبوي، كان في عهد الخليفة عبد الله يمتلئ بالناس كل يوم خمس مرات، ويقام التمام عند كل صلاة ويعلم الغائب والحاضر ومن غاب يطلب ويسأل ويحاسب وقد قسم الناس عشرات عليهم رئيس وكل عشر عشرات عليهم رئيس، ما أسهل التمام وما أصدق الناس حين يكون السوط هو السيف، ومن يهرب حكم علي نفسه بالسجن أو الموت، فكانت الضغائن والفتن والدسائس، وكان جهاز أمن الخليفة وسجنه وكان سيفه الذي طال الكثير من أصحاب الأمس. حتي الأشراف أهل المهدي طالهم القتل والعذاب، ولم يسلم من بطش الخليفة حتي آل بيت المهدي الأقربون. نقموا علي الخليفة وناصبوه العداء فرد لهم الصاع صاعين فسجن من سجن وقتل من قتل، حتي الخليفة شريف إبن عم المهدي وأحد من أوصي لهم بالخلافة لم يسلم من بطشه، فسجنه وقتل من ناصره. وأصبح أصحاب الأمس، أعداء اليوم.
وعندما وصلت القوات الغازية بقيادة كتشنر لإعادة إستعمار السودان، كان بعض انصار المهدي الذين حاربوا معه المستعمر حتي طردوه هم من المرحبين برجوع المستعمر إن لم يكونوا من المناصرين المحاربين في صفوفه، لما لحقهم من ظلم، وما طالهم من أذي. وكانت معركة كرري في 2سبتمبر1898م التي أظهر فيها السودانيين من البسالة والشجاعة ما أشاد به الأعداء، وخلدته كتاباتهم وكتبهم، لكن كانت الهزيمة وسقطت دولة الخلافة المهدية، وأكملت أم دبيكرات سقوط الدولة بمقتل الخليفة عبدالله في 24 نوفمبر 1899م .
وقد يختلف الناس في الحكم علي الطريقة التي ادار بها الخليفة عبدالله الحكم، ولكن الكل يجمع علي شجاعته وصحبه في إستقبال الموت. فعدما لاحت الهزيمة نزل عن حصانه، وإفترش فروته في أرض المعركة، وجلس ينتظر الموت في ثبات الأبطال كشأن فرسان السودان، وصحبه الي جواره، عن يمينه علي ود حلو، وعلي يساره أحمد فضيل وحولهم سلة من الأبطال وقد مكنوا البنادق من صدورهم لا ظهورهم وحقنوا بموتهم دماء الآلاف ممن كانوا معهم، كان يستحيل إستسلامهم وفي الخليفة عين تطرف، فإفتداهم الخليفة بنفسه وإختار الشهادة علي أرض المعركة بدل هوان الإستسلام وإنطوت صفحة من أعظم صفحات. تاريخنا.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.