الموت حق لا مراء في ذلك ولعله الحقيقة الوحيدة التي لا يختلف عليها اثنان وفي الحديث الشريف " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ".. فهل يفكر الطغاة في تلك " الانتباهة " أو " الصحوة " بعد " الصيحة " ؟ يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا مؤتمر وطني !! ولا أموال اكتنزوها ولا إنتباهة ولا آخر لحظة .. !! السودانيون مجبولون على الرقة والرحمة واحترام الموت وظللت أتابع ردود أفعالهم على الموتى وإن خالفوهم الرأي .. ودائما ما يدعون عليهم بالرحمة والمغفرة. لكي فوجئت حقا من تلك التعليقات التي صاحبت خبر وفاة المرحوم محمد مندور المهدي الذي نشرته الراكوبة حيث كانت بخلاف ما نعرفه عن أهل السودان من سماحة وتسامح عند الموت .. الكثير من السادة القراء صبوا جام غضبهم عليه وشيعوه باللعنات رغم القليل الذين ذكّروهم بعدم جواز لعن الموتى . من التعليقات التي ذكرها بعضهم أن الطعان اللعان الفاحش في الخصومة حسين خوجلي صاحب ألوان المتلون بحيث " إذا الريح مالت مال حيث تميل " والذي يقدم برنامجا حاليا ينسب فيه كل فضل وفضيلة له وأصحابه، كان حين يموت معارضوهم ويوغل في سبهم ويذكّره بعض أهل الحسنى بالحديث الشريف " اذكروا محاسن موتاكم " ، كان يقول " لكنهم ليسوا من موتانا !! " حيث فرز الكيمان فجعل الصالح المؤمن هم الكيزان والطالح الكافر من هم سواهم من أهل السودان!! أنا شخصيا لا ألعن الموتى لأنني أعتقد أن الظالم قد " وصل الميس " بموته حيث " لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " وحيث " وكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " وأجد من الصعب أن أعيب على من شاء أن يلعن موتى الذين دمروا البلد وشردوا أهله ومزقوه وقتلوا شعبه فأهل السودان اكتووا بنيران الإخوان المسلمين وقد تأذوا من قادتهم الطغاة وممن حسنوا لهم أفعالهم وزينوها في أعينهم بحيث جعلوا الطاغية ينادي يا فلان ابن لي صرحا من الجماجم فيتلقى الإجابة السريعة .. لبيك .. فهدموا بذلك وطنا على رؤوس أبنائه .. فهل يلام من يلعنهم ؟ (أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون). واللعن، ويعني طلب الطرد من رحمة الله، في مفتتح كل خطبة ومنتهاها على المنابر معروف في تاريخ الإسلام وقد لُعِن من هم أفضل من هؤلاء الذين تساءل عنهم الأديب الراحل الطيب صالح " من أين جاء هؤلاء ؟ " وهو استفهام استنكاري ساخر يحمل مضمونا قاسيا يرى أن هؤلاء لا ينتسبون لهذا الشعب لا من حيث سياسته ولا قيمه ولا إسلامه !! ترى هل اطلع أهل الإنقاذ على تلك اللعنات التي شيعت المرحوم مندور .. إنه شيء محزن .. وأمر يقشعر له البدن ويصيب القلوب منه الوجل وترتعد له الفرائص وما بالك بهؤلاء الذين يظنونه طاغية صغيرا فكيف بكبار الطغاة إن لقوا حتفهم حيث لا مفر من القدر المحتوم ؟ أورد القراء المعلقون ما قالوا إنه تحريض من محمد مندور للشباب للاستشهاد وإن صحت الرواية ترى كم من أولئك الشباب الغض قد فقد حياته بسبب من ذلك التحريض الذي انتهى إلى لا شيء ؟ فهو يتحمل وزرهم لأنه أخرجهم للقتال فاعتبرهم شيخهم الترابي الذي علمهم السحر بعد خروجه المذل من دائرة الحكم بأنهم " ماتوا فطايس " بعد أن كان يبشر ويقود جحافل مريديه لتقديم التهاني في " عرس الشهيد " ! كيف يحرض دكتور تلاميذه على القتال فيَقتُلون ويُقتَلون في أحراش الجنوب وصحارى دارفور وهم في ريعان شبابهم ثم يغادر هربا من الشهادة وهو في خريف العمر طالبا النجاة وطامعا في المزيد من الحياة في مستشفيات لندن ؟؟ !! والمفارقة أن الإساءة للمرحوم مندور جاءته من حيث لا يحتسب فكانت ممن زعموا محبته غفلة وجهلا ليفضح الله ذلك الحزن الكاذب وذلك قدر الطغاة .. !! فقد تولت قناة النيل الأزرق مهمة " العزاء / الفراش " ولم تترك الأمر لأهل الميت كقنوات السودان والخرطوم وأم درمان ولكنها الشلاقة حيث أرادت أن " تحرر البكا " فنشرت على شريطها الإخباري خبر وفاة محمد مندور ووصفته بالقيادي بالمؤتمر الوطني معزية ومتأسية ونشرت صورة له على شمال الشاشة طيلة نهار ومساء ذلك اليوم لكن المدهش أن حسناوات النيل الأزرق تبارين ذلك النهار وتلك الليلة في إبراز مفاتنهن ومحاسنهن عبر الثياب الصارخة وبحيث لم يتركن بوهية أو بودرة إلا وتلطخن بها لتبدو المذيعة فاقعة اللون كبقرة بني إسرائيل مع الضحكات الرنانة المتبادلة بين المذيعين والمذيعات في البرامج الحوارية " آخر انبساطة .. وأنا قصدي الانبساط .. " ومما زاد الطين طينا أن تلك القناة بثت تلك الليلة حفلا صاخبا امتد حتى الهزيع الأخير من الليل " لم تبق أغنيةٌ لحسن جميلةٍ / إلا ودارت حولها عدساتي " ... وكانت صورة المرحوم الكبيرة نسبيا تقبع في أسفل الشاشة وتراها تتكيء أحيانا على ... المذيعة الحسناء ذات الثوب فاقع اللون ..!! وهاك يا هجيج وصخب وضجيج ورقص.. وكنت كلما أدرت الريموت ثم عدت بعد فترة أجد " الحال في حالو " وكأنما توافق أهل القناة يومها على الاحتفال بوفاته ..!! إن ما يفعله إعلامنا أحيانا لا يخطر على بال أحد !! وغدا يا أكابر الإنقاذ سيرقص المنافقون على جثثكم وإن بالغوا في الثناء عليكم اليوم بسبب السلطة والمال والجاه ومثل ذلك الحفل البهيج هو مرثيتكم الأخيرة من محبيكم فكيف بمبغضيكم ؟ لو كنت من أهل الإنقاذ خاصة أولئك الذين يطلقون عليهم البدريين لبادرت للتوبة هربا من هذه اللعنات ولتحللت من أموالي التي نهبتها ولوهبت منازلي ومزرعتي وشركاتي وكل أملاكي أوقافا لمن قتلوا في الحرب اللعينة ومن سجنوا وعذبوا من أهل السودان تكفيرا لذنوبي ولأعلنت توبتي على الملأ طالبا الغفران ومعلنا الكفران والتبري من الإنقاذ .. ولطلقت نسائي وعدت أدراجي من ماليزياولندن وغيرها واعتكفت باكيا في الكعبة الشريفة عسى ولعل ..!! ملحوظة : اختلط علي كثيرا وأنا أكتب اسم " مندور " باسم " غندور " ولا أعرف إن كانت مصادفة أو أن ذلك هاجس بتوارد خواطر " المصير الواحد " .. أتمنى أن يقرأ الترابي وتلامذته ما وراء السطور في موت مندور وأن يتصوروا ما يمكن أن يكون من دعاء الناس عليهم بقدر ما قدموا !! و " الكلام ليك يا المطير عينيك " .. ولات ساعة مندم .. وليحذر كل من كان في قائمة موتى جماعة حسين خوجلى من دعاء المظلومين ولعناتهم . رحمة الله على المرحوم مندور مع يقيني أن دعائي له لن يغني عنه من الله شيئا إن كان ممن أجرموا في حق البلاد والعباد فحقوق العباد لا تغتفر .. لكنها ظاهرة جديرة بالتمعُّن حيث جعلت شعبا رحيما سمحا لا يتردد في أن يلعن موتاهم !! .. فهل من مدّكر ؟ إضاءة : قال تعالى " سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " [المنافقون:6] [email protected]