مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    شرطة دبي تضبط حافلة ركاب محملة بأسطوانات غاز!    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



درويش.. عشقٌ أنت والخرطوم هواية
نشر في الراكوبة يوم 30 - 09 - 2014


عبد الماجد عبد الرحمن
(.. إلي محمود درويش وهو يزور الخرطوم ويدلّك ظهرها (بالأبد المؤقت في القصائد).
تمهيد
هذه المقالة, التي جاءت في مقاطع متسلسلة (1-8), كتبت بمناسبة زيارة الشاعر الفلسطيني الفخيم الراحل محمود درويش إلى الخرطوم, بدعوة من مركز الدراسات السودانية وبمبادرة من رئيسه الدكتور حيدر إبراهيم. ويحاول المقال استغلال زيارة الشاعر الكبير وتوظيفها لينشأ من خلال فضاءات اللغة و النقد والكتاب, حواراً بين الكتابات السودانية, نثراً وشعراً, وبين الكتابات الفلسطينية, وخاصة كتابات درويش. وسيجد القارئ بانوراما واسعة من اختيارات شعرية ونثرية من أجيال سودانية مختلفة, منذ الثلاثينات وحتى بدايات ومنتصف العشرية الأولى من الألفية الجديدة, و قد تخللت المقال الذي جاء بهدف الاحتفاء اللازم بالزائر الكبير0 لكن تلك الروح الاحتفائية العالية , لم تمنع وجود ملامح مقاربات وأفكار نقدية هنا وهناك, بالإضافة إلى محاولات التناسج والتشبيك بين الكتابات السودانية والكتابات الفلسطينية-العربية.
... ما أنا إلا خطاي , وأنت بوصلتي وهاويتي معا .
لو كنت غيري في الطريق, لكنت
أخفيت العواطف في الحقيبة, كي
تكون قصيدتي مائية, شفّافة, بيضاء,
تجريدية , وخفيفة... أقوى من الذكرى,
وأضعف من حبيبات الندى, ولقلت :
إن هويتي هذا المدى!
لو كنت غيري في الطريق, لقلت
للجيتار : درّبني على وترِ إضافي!
فان البيت أبعد, والطريق إليه أجمل –
هكذا ستقول أغنيتي الجديدة – كلما
طال الطريق تجدد المعنى, وصرت اثنين
في هذا الطريق : أنا ... وغيري!
( محمود درويش, من ديوان لا تعتذر عمّا فعلت )
" إن الكلام على الكلام صعب . قال: ولم ؟ قلت :... فانه يدور على نفسه ويتلبس بعضه ببعضه " ( أبو حيّان التوحيدي, كتاب الإمتاع والمؤانسة , الليلة الخامسة والعشرون ) .
(1)
درويش.. كيف أبدؤك ؟ كيف يمكن اختزالك وأنت بهذا التدوير والتجسيم والتركيب الهائل : الأرض والمنفي , والوطن والقصيدة , الطريق والمسافر , الحلم والواقع , كلامك شعر وشعرك كلام .. زبدك بحر وبحرك زبد .. أنت الوطن مجرداً حد العدم .. والتراث مغربلاً حتى الحداثة .. القضية في كراسة شعر, وكراسة شعر هي أجمل وأثمن وثائق القضية .. جدل الواقع والوهم .. افتراس النص للواقع والواقع البئيس محاصرا النص حتى الموت. درويش.. الورقة أمامك مملوءة بالشعر ( ألم تقل أنها ليست بيضاء كما قد نتوهم؟! ) ثم يطلع منك كل هذا الوجع الجميل , كل هذا الغناء المتجدد , كل هذا الاندفاع الحياتي اللانهائي ثم تأتي فتقول لنا أنك لاشيء وأنك منفي وضائع؟! أنت يا درويش , هم ونحن.. ولونك هو أنت ..هما.. وهي ! أليس هذا "الاغتراب" هو وقود الإبداع الذي لا ينضب؟ ألم يقل أبو تمام- أحد الشعراء الذين تحب أن تتناص معهم كثيرا – ألم يقل (فاغترب تتجدد)؟! . وهذا , على الضبط , هو الذي يجعل المعني يتجدد كلما طال الطريق !
(2)
الطريق إلي الوطن أجمل من الوصول إليه , لأنه ببساطة , الطريق من ( أوراق الزيتون) إلى ( كزهر اللوز أو أبعد) . والطريق أجمل من البيت , لأن البيت نفسه مسافر في الطريق .. أو هو ذاته الطريق في أزهي تجلياته .. ولأنه طريق الضحايا والجلادين معا ( ألم يقل "شارون " وهو الرمزية المقابلة لرمزية عرفات أنه يحب شعرك , وأنه يحسد الفلسطينيين علي عمق علاقتهم بالأرض؟؟) وهل يمكن تصور علاقة الفلسطينيين بالأرض إلا عبر هذا الطريق الدرويشي الجبلي الطويل المتعرج؟؟ . هذا الطريق يختصر المكان كله في( قصيدة ) و يقطّر الزمان برمته في (ديوان شعر) ! الطريق أجمل من البيت لأننا سنستريح معك على قهوة أمك في محطات رائعات ( أحن إلي خبز أمي/ وقهوة أمي / ولمسة أمي / وتكبر فيّ الطفولة/... ضعيني إذا ما رجعت يوما / وقودا بتنور نارك/ وحبل غسيل على سطح دارك /لأني فقدت الوقوف بدون صلاة نهارك/ هرمت , فردي نجوم الطفولة /حتى أشارك صغار العصافير درب الرجوع/ لعش انتظارك ! ) ... يا لها من محطات : أوراق الزيتون , عاشق من فلسطين, آخر الليل, حبيبتي تنهض من نومها, العصافير تموت في الجليل, تلك صورتها وهذا انتحار العاشق, مديح الظل العالي, حصارٌ لمدائح البحر, وردٌ أقل, أحد عشر كوكباً ,هي أغنية ..هي أغنية, حالة حصار , لماذا تركت الحصان وحيداً ( وهو الديوان الذي أحبه شارون!! ), جدارية , سرير الغريبة و كزهر اللوز أو أبعد (2005).
(3)
والطريق إلي البيت أجمل من البيت لأنه طريق النيل إلي "الكرمل "المقدس وطريق الراعي إلي منابع الأغاني الأولى.. طريق السدر و الهشاب.. إلي الكروم .. طريق النخلة إلي شجرة الزيتون.. طريق الشجن المعبد بين أشجار التبلدي (في كرد فان) و أشجار اللوز (في رام الله).
وهذا الطريق .. دائما أجمل كونه :
طريق النزول إلي أوّل الأرض
( إن السماء رمادية)
طريق السنونو ورائحة البرتقال على البحر
( إن الحنين هو الرائحة)
طريق يدل على الشيء وعكسه
(لفرط التشابه بين الكناية والاستعارة)
طريق البريد القديم المسجل
( كل الرسائل مودعة في خزائن قيصر )
طريق يطول ويقصر
( وفق مزاج أبي الطيّب المتنبي )
طريق يؤدي إلي طلل البيت
( تحت حديقة مستوطنة)
(درويش, من قصيدة طريق الساحل )
والطريق أطول وأجمل لأنها مرصوفة برائحة البرتقال ومزروعة بغناء النوارس والسنونو وعبق الكروم ورائحة الليمون و الزعتر البرّي, ومعبأة بقصة التين وحزن الزيتون الذي لا ينتهي . والطريق رائعة لأنها مطلية بلون الدهشة والانكسار وبتاريخ زنبقة.. هناك في الزوايا منسيّة . الدرب أجمل من الوصول,, فالأرض تحته لا تكف عن الغناء والأنين . فكما قلت في واحدة من " أغنيات للوطن" ( للأغاني منطق الشمس , وتاريخ الجداول/ ولها طبع الزلازل). والطريق طويل.. طويل لأنه طريق النيل إلي ذاته وطريقك إليك/ إلينا , وسكتنا جميعا إلى ساحات (المدى) . الطريق إلي فلسطين هو طريق النيل المرهق إلي القصيدة .. والقصيدة طريقنا إلي ( الأبد المؤقت في القصائد ) كما قلت أنت ذات قصيدة . وتذكّر- يا درويش- حينما تحاور النيل في المساء .. تذكر ما قلته عنه سابقا في برهة ما من ذلك الأبد :
ليس من عادات هذا النيل أن يصغى إلى أحد
إن النيل تمثال من الماء استراح إلى الأبد
ولكن لماذا تريد أن تتذكر أصلا ؟! أو لست القائل :
نحن في حل من التذكار
فالكرمل فينا
وعلى أهدابنا عشب الجليل
لا تقولي : ليتنا نركض كالنهر إليها ,
لا تقولي !
نحن في لحم بلادي .. هي فينا !
( درويش , يوميات جرح فلسطيني )
(4)
أيهذا الدرويش... في الخرطوم ستجد الحزن برتقالة أخرى , زيتونة متعبة ولكنها طعم آخر. في الخرطوم , تلك المكلولة المكدودة , يا درويش.. ستنبت فلسطين وردة حمراء أخرى .. وطناً يطلع من نوستالجا النيل إلي النيل . عشبة نيلية أخري . وفي الخرطوم المنشغلة بذاتها, ستجد أن الطريق الى البيت, هو البيت والضوء والنفق :
" لا شيء إلا الضوء,
لم أوقف حصاني إلا لأقطف وردةً حمراء من
بستان كنعانية أغوت حصاني
وتحصنت في الضوء :( درويش : لا شيء إلا الضوء)
هنا في الخرطوم حيث جبل "الكرمل" مرسوم علي جبال "كرري" , لا فرق ( بين المسافر والطريق ) ولا ( فارق بين المغني والأغاني )
وفيها (جلست أريحا, مثل حرف /من حروف الأبجدية)" كما تحب أن ترسم .
درويش .. سيحدثك عاشقوك في أم درمان- ويل لك من عاشقيك في تلك المدينة, التي قال عنها معاوية نور ذات مرة إنها ( مدينة السراب والحنين) - أن الشعر هنا يسكن الطين, وأن القصائد تحوم في الأزقة, وأن أجمل الغناء يطلع من أهازيج الدراويش في المساءات :
ما أجمل المساء في عينيك يا مدينتي
منسكبا على حوائط البيوت
على كنائس النصارى الطيبين
على مآذن المساجد الفقيرة
على قبور الفقراء الفوضويين
على حقول القصب الكريمة
على الأزقة المعتمة التي
يولد فيها الشعر والجمال والجريمة .
( الفيتوري , 1964, من قصيدة : الحلم والعجز )
هناك, ستجد يا درويش .. دراويشا " من طينة النار ,ينتظرون وراء الحدود" , بوصف محمد المكّي إبراهيم . تجد دراويشا لا يعرفون متى أحبوا فلسطين ولا كيف يفرزون فلسطين من محمود درويش أو محموداً الدرويش من فلسطين ! وليس يدرون إن كانت فلسطين جرحاً أم حديقة ؟!
درويشٌ عاد
يلوك أغنية الرحيل
ويذرف الصمت الطويل !
والشمس قد غطست هناك
ومشى الظلام على الحقول
يضم أكواخاً كئيبة
من تحت أذرعه الرهيبة
لاشيء يا درويش؟
لا عرس هناك , ولا مصيبة ! ؟
( جيلي عبد الرحمن , من ديوان : الجواد والسيف المكسور )
وحتماً لن ينسى عاشقوك المتعبون أن يدلوك على المنزل" الطيني" الذي طلعت منه كوكبة من أجمل قصائد الشعر العربي في الثلاثينات : التجاني يوسف بشير(1910 – 1937 ) : هنا تجد الصوفي المعذب الذي قال :
( أنا وحدي كنت استجلي/ من العالم همسه/ أسمع الخطرة في الذرة / واستبطن حسه/واضطراب النور في خفقته / أسمع جرسه ), ( من قصيدة الصوفي المعذب).
وكان التجاني عاشقا متبتلا في محراب النيل :
أنت يا نيل يا سليل الفراديس نبيل موفق في مسابك
ملء أوفاضك الجلال فمرحى بالجلال المفيض من أنسابك
حضنتك الأملاك في جنة الخلد ورفت على وضيْ سحابك
وأمدت عليك أجنحة خضراً وأضفت ثيابها في رحابك
فتحدرت في الزمان وأفرغت على الشرق جنة من رضابك
بين أحضانك العراض وفي كفيك تاريخه وتحت ثيابك
مخرتك القرون تشّمر عن ساقِ بعيد الخطى قوي السنابك
( التجاني يوسف بشير , من قصيدة : محراب النيل )
رحم الله التجاني . مات دون الثلاثين . كان شاعراً مجدداً , إنه ( قيثارة الجديد ) كما وصف نفسه ذات مرة .
وفي الخرطوم , لابد أنك واجدٌ عراقة الحب الفلسطيني , النازع دوماً إلى أعلى . فهذا محمد أحمد محجوب (1908 – 1976) , من جيل التجاني وأحد قادة الحركة الوطنية ورئيس وزراء منتخب سابق إبان ستينات القرن المنصرم . وهو أيضا مهندس مؤتمر الخرطوم الذي عرف بمؤتمر اللاءات الثلاث في العام 1967 . كتب المحجوب قصيدة خاصة أهداها إلي الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان ( راجع ديوانه: قلب وتجارب ) . وكتب عبد الله الطيب (1921 -2003) , أحد أهم علماء العربية والأدب العربي في القرن العشرين قصيدة في فلسطين في العام 1948 , أسماها " هموم وفلسطين " ( ديوانه : أصداء النيل ) . ليس هذا , بالطبع, بحثا عن" فلسطين في الشعر السوداني ", وهي وافرة جداً. هي فقط إشارة إلي عراقة هذا الجرح- الحب في الوجدان والخطاب الشعري السوداني .
(5)
للّه بلاؤك يا درويش .. وويل لك من العشق الخرطومي/الأمد رماني الخاص . وسيحتفي بك الجيل الجديد بطريقتهم الخاصة , وبشكل أخص شعراء وأصدقاء قصيدة النثر في السودان . ولن تعدم من ينتقدك بشراسة , لا تخلو من حب ما , غامض.
سوف لا يعجب هؤلاء تحفظك على قصيدة النثر , وقد لا يقنعهم ما قلته لاحقا لعبده وازن في حواره معك في جريدة الحياة ( أنك تؤمن بمشروعية كل الأشكال الشعرية : عمودي, تفعيلي, نثري ...الخ) . سيهاجمونك بشراسة ويحبونك بعنف , ذلك أنهم يقدرون أنك , كقصيدتك تسكن في البرزخ (الغامض بين الكلام والكتابة) . وفي مساء آخر .. بعد أن تدلّك ظهر الخرطوم( بالأبد المعلّب في القصائد).. وبالشعر المنعنع ( ثمة نعناع خاص في لغتك ) , وبالملح المشتت في الحروف .. و(بالفرح البديل) :
والمدينة قرب حنجرتي تغني حين تسقط في مرايا النهر/صوتي ليس لافتة /
ولكني أسميك البديل/ ... هبطت نساء من قشور الضوء/
جاء البحر من نومي على الطرقات/ جاء الصيف من كسل النخيل/أحصيت أسباب الوداع/ وقلت / ما بيني وبين اسمي بلاد/ليس لي لغة/
ولكني أسميك البديل ( من قصيدتك : تلك صورتها وهذا انتحار العاشق ) ..
سيهديك أحد عاشقيك ,الصادق الرضي – وهو من رواد القصيدة الجديدة – تلك التي جاءت بها الحساسية الشعرية التسعينية في السودان والعالم العربي ( الريادة هنا بمعناه السيروري المتحرك وليس ذاك الجامد في محطة زمنية واحدة ورمز شعري واحد – كما تحب أنت نفسك أن تصفها ) . والرضي صاحب اشتغال شعري خاص وقلق شعري خاص وعوالم شعرية خاصة :
في العام 200056 :
كانت الأرض مغمورةً بالرماد
والسماءُ في عري
ظامئةً لصلاة ودم وأدعية
في العام 200056 :
كان التاريخُ يسير بملابسه الداخلية
صار أنيقاً من دمنا ودموعنا
من عرقنا وضلوعنا...
في الشرايين : عرقُ الأرض
في الأوردة : ماءُ العين
بين الأصابع: دمعة
تطمح أن تصير وردة
لتجمل وجه الجدار ! ( الصادق الرضي , من ديوان : متاهة السلطان )
# وشعراء الحساسية التسعينية في السودان تربطهم بك يا درويش علاقة محبة شعرية خاصة ولابد أنهم سيأتون من كل " زقاق " عميق الى أمسياتك الشعرية في الخرطوم .
(6)
عجيب أمر هذا الأبد ! أبد يجعل من فلسطين أنشودة صوفية معلقةً على جسور النيل وشاعراً يهبط على أمدرمان كمطرِ ليليِ كثيف.. وكفرسِ عربي قديم.. يهبط كقدرِِ آخر . ومن هذا الأبد المعلق على بيوت أمدرمان سيهديك كمال الجز ولي , أحد " كهنة " تلك المدينة لحظة معلبة من العام 1972 :
يا أيها الفرح الخرافي الذي ..
يأتي علي غير انتظار,
لك عنبر الزمن القصي ,
لك صندل المنفى
وقد عزّ المزار,
لك شهقة الحلم الصبية
في دمي,
لك لقلقُ الذكرى وعصفورُ..
الحصار
( كمال الجزولي من قصيدة : أم درمان تأتي في قطار الثامنة )
لا شك يا درويش.. أنك مريض بالإيقاع ( ألم تقل أن اللحظة الشعرية عندك تبدأ بالإيقاع؟!, راجع لقاء عبده وازن معه في جريدة الحياة اللندنية). ولاشك أن الإيقاع الذي –لا يعني بالضرورة الوزن الخليلي- يعد من خصائص الشعر و الشعرية – مهما طال جدل النقاد حوله . لك لحظة أخرى من ذلك الأبد"الموقّع" في القصائد من شاعر أمد رماني آخر, من جيلك , مسكون بالإيقاع :
بيني وبينك سكة السفر الطويل من الربيع
إلى الخريف
تعلو قصور الوهم أنت ومرقدي في الليل
أتربة الرصيف
هم ألبسوك دثار خزِ ناعم الأسلاك
منغوم الحفيف
ودعوك تاج العز.. عز العز , صبوا في دماك
عصارة الكذب المخيف
وأنا الذي حرق الحشاشة في هواك
ممزق الأضلاع, مطلول النزيف
بيني وبينك قصة الشعراء, صدر غمامة
يلهو على الأفق الشفيف
هذا أنا..
بحر بغير سواحل.. بحر هلامي عنيف
لا بدء لي .. لا قاع لي .. لا عمر لي ..
لكنني في الجوف ينبض قلبي النزق اللهيف
( مصطفى سند : البحر القديم )
لله درّك يا درويش.. الخرطوم ليست مدينة .. إنها هواية !!
وهذا عصام عيسى رجب , شاعر لا يكف عن الغناء إلا لينطلق من جديد في لحن أبعد وشجن أوسع ولغة سمراء عذبة . هذا الشاعر يعطيك صورة حديثة لتلك المدينة التي وصفها معاوية نور في مطلع ثلاثينات القرن الماضي :
" يدخلها الإنسان عن طريق القنطرة الجديدة المقامة على النيل الأبيض بعد أن ينهب الترام سهول الخرطوم الخضراء الواسعة , فيلقي نظرة على ملتقي النيلين في شبه حلم , ويعجب لهذا الالتقاء الهادئ الطبيعي , وذلك التصافح العجيب من غير إثارة ضجة ولا صوت , فكأنما النيلان افترقا في البدء على علم منهما وهنا يتلا قيان كما يتلاقى الحبيبان ويندمجان نيلاً واحداً فما ندري أنهما كانا نيلين من قبل ... وإنما هناك عناق هادئ لين , وانبساط ساكن حزين ... وأبلغ ما يدل على تلك النفسية وذلك الخلق الأغاني الشعبية التي يرددها الكل , من أكبر كبير إلى الأطفال في الطرقات والشوارع , بل إنني لا أعرف شعبا فتن بأغانيه وأعجب بها فتنة السوداني وإعجابه بها ... بل بلغ افتتانهم بها أن الرجل الذي يشتري (الأسطوانة ) الغنائية بعشرين قرشا وهو لا يملك قوت يومه , وقل أن يمر الإنسان بشارع من شوارع أمدرمان الا ويعثر على إنسان أو جماعة تدمدم بتلك الأغاني في شبه غيبوبة حالمة وصوت باكٍ حزين ! ( معاوية نور , أمدرمان مدينة السراب والحنين, جريدة مصر 17 /10 / 1931 ) .
فلنعد إلى عصام .. شاعر مجيد حديث ذو صلة خاصة مع العباس بن الأحنف (ديوانه: الخروج قبل الأخير ) وهو شاعر, بجانب حداثيته, عاشق فريد للتراث العربي وقارئ له بكثافة وذكاء :
على حافتين
تعلق بعض الغناء الرهيف
بعض النزيف
وأوّل ما تبتغيه المياه من الضفتين
ولا تستدير
إذا فالغياب أخير
***
سأخلو بأغنيتين
لدمي ومداك
ما عليك
ستثور قليلا بوجه انتشائي
تبوح بسر المغني
تكسر نزف الربابة
تلوذ بصمتٍ مريب
أنا ما ترى من ذهول الشراب الأخير
فلا تعتريني
ستوغر صدر الغزالة ضدي
يكون جمال النجاة القصير
عليك الغناء
وليل بطيء الكتابة
طويل طويل....
(عصام عيسى رجب , عليك الغناء.. ستوغر صدر الغزالة )
(7)
( لم تأت. قلت : ولن... إذاً سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي وغيابها : أطفأت نار شموعها ,أشعلت نار الكهرباء , شربت كأس النبيذ وكسرته, أبدلت موسيقى الكمنجات السريعة بالأغاني الفارسية .قلت لن تأتي . سأنضد ربطة العنق الأنيقة
[ هكذا أرتاح أكثر ]. أرتدي بيجامة زرقاء. أمشي حافيا لو شئت .أجلس بارتخاء القرفصاء على أريكتها , فأنساها وأنسى كل أشياء الغياب/أعدت ما أعددت من أدوات حفلتنا إلي أدراجها . وفتحت كل نوافذي وستائري. لا سر في جسدي أمام الليل إلا ما انتظرت وما خسرت .. سخرت من هوسي بتنظيف الهواء لأجلها
[ عطرته برذاذ ماء الورد والليمون] . لن تأتي ... سأنقل نبتة الأوركيد من جهة اليمين إلي جهة اليسار لكي أعاقبها على نسيانها ... غطيت مرآة الجدار بعطف كي لا أرى إشعاع صورتها ... فاندم/قلت : أنسى ما اقتبست لها من الغزل القديم , لأنها لا تستحق قصيدة حتى ولو مسروقة ... ونسيتها وأكلت وجبتي السريعة واقفا . وقرأت فصلا من كتابٍ مدرسيٍ عن كواكبنا البعيدة . وكتبت , كي أنسى إساءتها , قصيدةً, هذه القصيدة !), ( كزهر اللوز .. أو أبعد ,2005).
.. في هذا النص المأخوذ من ديوان درويش الجديد ( كزهر اللوز..أو أبعد) ... كم هي رائعة وعميقة هذه أل(أبعد ), بانحرافها المتعمّد وبمفارقتها للوصف الأول (اللوز) وباتساعها وقدرتها على السباحة في فضاء دلالي أكبر ! ها هنا .. تتجلى قدرة درويش علي الاحتفاظ بالعذوبة الشعرية في غمرة فوضى "العادية ", والاحتفاظ بجذوة روح الشعر(شعرية الشعر ) متقدة وسط هرج الكلام ( انه جدل الشعر والكلام ) . وفيه ينكشف تواطأ درويش مع عبارة أبي حيّان التوحيدي(310 – 414 ه) " أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر , ونثر كأنه نظم " . ويبدو أن جزءا واسعا من إستراتيجية درويش للتجدد والاحتفاظ بهذا "البهار" الشعري الخاص الذي يجده قراؤه في دواوينه الجديدة , ينهض على هذه العبارة/الرؤية التوحيدية (نسبة لأبي حيان التوحيدي). وهو (لم يستعر العبارة ليتقنع بها ويتكئ على دلالتها , بل أعاد كتابتها- اكتشافها- بلسانه الخاص وروحه الخاصة, ومسعاه الخاص , وقلقه الفني الأزلي .. الخاص) , كما علّق الشاعر السوري نزيه أبو عفش .
(8 )
درويش .. هنا في الخرطوم .. سيحتفي بك المثقفون وطلبة المدارس والجامعات والنساء اللواتي لا مأوى لهن وصبية الورنيش وبائعات الشاي وسائقو التاكسي والحافلات . كلهم سيأتون لإعادة اكتشاف هذا "الطريق". الملاحق الثقافية في الصحف سوف تعطّر لك صفحاتها بالورد والليمون وبزهر اللوز - وستجد الكاتب الكبير عيسى الحلو يقول لك " إن الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إليه " لأن الحكمة الفنية هي ببساطة ( اختبئ لأبحث عنك, مجموعة قصصية لعيسى الحلو ) !!
درويش.. لا شك أن الطريق طويل ومتعرج .. ولكن البيت هناك.. وعشب الطريق يغني معك.. معنا , و"الزنبقة الغائبة " تلّوح لنا جميعا من بعيد :
هو الرعد مازال يهدر فوق البراري
فيمطر سهلا ويحرق غابة
فيا وجه سيدتي القمري
دفنت مع الليل خارطة للكآبة
فكل الحروف تؤدي إلى عرش قيصر
ما عاد قيصر يملأ ثوب المهابة
أقول لسيدتي.. دفتري عربي الكتابة
وها أنذا يا حبيبة قلبي أهز الجدار
وأكتب أغنية عن بريق الشموس
تسلل من خلف نافذتي رغم كل الحصار
لعلي أراك تطلين زنبقة كجبين النهار
( محمد عثمان كجراي : إلي الزنبقة الغائبة , من ديوان الليل عبر غابة النيون )
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.