بدا المشهد تراجيديا غريبا . أصوات النسوة المتنافسة و هن يعددن مآثر الفقيد . صدى أيديهن و هى ترتفع إلى أعلى ثم تنزل على الصدور فى قسوة و كأن بينها و الصدور ثائر قديم . أطفال لم تفسد عيونهم تجارب الحياة بعد يركضون هنا و هناك غير عابئين بجلال و غموض الموت. بينما فى وسط الحلقة وقف شاب وسيم يقهقه قى هستيريا عارمة . أحاط به جمع من الرجل يصيحون " الراجل جن يا اخوانا . لا حول و لا قوة الا بالله " . لم يبدى هو أية مقاومة ، بل ظل يقهقه و كأنه بطل فى مسرحية هزلية . ذاك المساء كنت أشهد فيلم " عقل وسيم " للمثل العظيم " رسل كرو " حين تلقيت مكالمة هاتفية مفاجئة من مدير تحرير جريدتى مكلفا اياى أن أحاور المحاضر الجامعى ذاك . خرجت صباح اليوم التالى و برفقتى قلمى وأوراقى و قائمة بأسماء أشياء طلبت منى زوجتى ان أحضرها من البقالة حين أعود ليلا . شققت طريقى وسط علب الساردين المسماة- ترفقا - بشرا و دلفت الى مستشفى تحيط بها أسوار خيل لى أنها تريد ان تصادر النسائم التى تحاول التسلل عبرها هاربة من صراعات الطريق العام . دلنى احد الممرضين عليه فجلست امامه بعد أن عرفته بنفسى . بدا لى متماسكا جدا ، وسيما . كنت اعلم اسمه لكنى سألته عنه محاولة لإشاعة دفء بيننا فرد بصوت واثق " منتصر ". سألته عن سنه فقال و هو يتحسس شعيرات بيضاء يمسك بعضها بتلاببيب بعض على حافة راسه " لا يغرنك هذا الغزو الجليدى لتخوم راسى . ظاهريا انا فى بدايات الاربعينات ، تحديدا فى الثالثة و الاربعين من وهم اسمه العمر . استوقفتنى كلمة " ظاهريا " فقلت له مبتسما " و حقيقة ؟ " . رد بسرعة " حقيقة انا اقدم من صائد كان يحمل حربته و يصاد الغزلان حين كان التاريخ يتعثر فى اثواب طفولته " . باغتتنى لغته الشاعرية فصمت لدقيقة . سألته عن عمله – و أنا به عليم - فقال بهدوء " كانت حياتي – حتى عهد قريب - امتدادا لحيوات أخر " . قلت له بهدوء " لم افهم " فقال و ظلال ابتسامة غامضة تتراقص على شفتيه " هل تعلم ان الجهل يورث المرء التواضع ؟ هكذا يقول المتصوفة " . وضعت قلمى على دفترى بدهشة فابتسم و قال " لا بد انك تردد بينك و بين نفسك اننى لست مجنونا " . قلت له فى ادب " العفو . لم يدر ذلك بخلدى ابدا " . ضحك و هو يسألني إن كانت ثمة سجائر معى . اعطيته واحدة فنفث منها سحبا كثيفة و قال " "نيشته" يرى ان الجنون سياج جبان يضربه المجتمع حول كل من يريد أن يهرب من ثقافة القطيع و يعثر على تفرد ما " . قلت فى نفسى ان الرجل مثقف و متماسك الدواخل . نظر الى مليا ثم قال " سل ما شئت " . قلت له " ان اهلك يقولون انك وقفت فى منتصف السرادق شبه عار و طفقت تقهقه و الوفود تترى معزية فى وفاة خالك " . قال بهدوء " خالى كان ميتا قبل سنوات . و كل ما كان يربطه بالحياة قدرته البلهاء على إنجاب أطفال يرمى بهم فى سهوبها دون ان يعلم مصيرهم فى المستقبل " . اجتاحنى فضول غريب و هو يردف قائلا " ثم ما الخوف من العرى اصلا ؟ الانسان سيذهب إلى الله عاريا " . صمت لدقيقة ثم بدا يسترسل و عيناه تغوصان فى أفق قصى " والدى كان رجلا رقيق الحال . نشات و اخوتى فى بيت طينى فى قرية لم تعرف لها موقعا فى خارطة بلادكم مذ أنشاها ذاك الشيخ الفقير . أبى كان رجلا مزواجا . قيل لى انه تزوج للمرة الاولى و هو دون العشرين . كانت ابنة خاله . انجب منها ثلاث صبيان و بنتين . توفيت زوجته بحمى ذات صيف فبكاها اسبوعين فقط قبل ان يبكى لذة بين فخذى زوجته الثانية . كانت هذه كاهلية حسناء . قدم اهلها الى اطراف قريتنا ذات جوع ما هربا بما تبقى من بهائمهم . ذات يوم قدمت إلى شفخانة القرية لتطعم أخاها الأصغر من مرض ما . و هناك رآها ابى فتبعها خلسة ثم تحدث الى ابيها . و بعد اسبوع كانت قد حلت محل زوجته الاولى . ثم تزوج بأمى فيما بعد دون ان يطلق الثانية . قيل لى ان جارة لامى كانت قد اصيبت باكتئاب ما ، فاصطحبتها امى الى ضريح الشيخ سعيا وراء الشفاء . و هناك راها ابى . تزوجها فانجبنى و اخوة ذكور ثلاث و بنتين . هذا غير اختين و اخوين انجبهما من الكاهلية . ادخلت المدرسة و انا دون السابعة فنبغت فيها جدا . و تسلقت السلم التعليمى وثبا حتى الجامعة تاركا لاقرانى مهمة اللهث وراء غبار اقدامى العبقرية . درست فى كلية التربية متخصصا فى اللغة الفرنسية . عينت بعد تخرجى محاضرا بالقسم ثم اكلمت دراسة الماجستير به . ذاك العام توفى ابى . و ترك لى افواها كثر لأملأها بالقمح و جماجم خاوية لأملاها بالعلم ذلك لأنني كنت الوحيد بين اخوتى الذى اتيحت له فرصة الالتحاق بجامعة . اما بقيتهم فقد عمل بالزراعة التى لا تسمن و لاتغنى من جوع . لم تتح لى اعباء الصرف على قبيلتى التى تركها ابى ورائه فرصة لاتزوج قط . هذا غير اعباء الاسرة الممتدة من خالات و عمات و ابناء خالات و ابناء عمات و غيرهم . و أصدقك القول انك إن رأيت الاحذية المرمية امام باب بيتى فى امدرمان لحسبت انك امام باب مسجد لا منزل . هذا غير من يقصد العاصمة للسفر الى الخارج او استصدار اوراق ثبوتية او تسجيل ابن او ابنة فى كلية ما . أما حين يقدم احد ابناء القرية الى العلاج فحدث و لا حرج . حينها يتحول حماما البيت الى خلية نحل و يتحول المطبخ الى ساحة معاركة . و حين تأتى ليلا الى " الحوش " و تجد الاسرة مبعثرة فى أركانها ، و العراريق معفرة فى الثرى ، تتساءل في براءة كيف لم يمت هؤلاء من جراء نقص الاوكسجين . ثم اضيف الى هذا هم جديد . بدأ اخوتى فى الزواج . و بدت بطون نسائهن فى الاستدارة كالبطيخ . ثم بدأت أفواه أخر تقفز من الأرحام و تفتح فى انتظار شآبيب العم أو الخال الهمام !! و ذات يوم خرجت من المنزل عصرا لأتمشى . كان مخيمى اقصد بيتى كعادته مكدسا بالجثث التى لا تحصى . تناولت سيجارة من دكانة مجاورة ( لأول مرة فى حياتى ) و رحت انفث دخانها فى وجه رداءة المدينة . ثم رأيتها . هكذا قرر القدر الضنين فجأة أن يضحك فى وجهي . رأيتها على الرصيف المقابل . كانت مضيئة كنجمة تتوسد العتمة . بدا لى ان ملايين الشموس تشهق تحت ثوبها الابيض . طبيبة ؟ لم أدرى . داء لقوب العاشقين ؟ أكييييد . اقتربت منها لا كما تقترب الغيمة من الوردة و لكن كما تقترب النحلة من الوردة . تاملتها فتحول قلبى الى درويش يرطن بين ضلوعى و تحولت ضلوعى الى ساحة تئن فيها نوبات الذكر ، و ترفض فيها الروح هديرا من ضوء قدسى . نظرت لى فبدت لى عيناها معبدين من نشوة . خلعت نعلى و رفعت ازارى عن ساقى و دلفت عبر الرموش الطويلة كمشاوير الشجن فوجدتنى غارقا فى بحر لا يريد غريقه ان ينجو من براثن موجه . نظرت إلى فى التفات غزال نافر . ثم تهادت الى حافلة كتب عليها " مستشفى الامل لمرضى القلب " . و من يداوى قلبى سواك يا طائشة الخصلات ؟ " . انتظرت حتى قدمت سحلفاة صفراء يسمونها خطأ بتاكسى و همست لسائقها الذى توفى قبل عامين ان يذهب بى الى ذاك المستشفى . و هناك رأيتها . تكرر الأمر عدة مرات . ثم ذات مساء ابتسمت لى فى دفء و همست بى غنج " يبدو انك صياد لا تمل الطراد " . بعد شهرين كنت قد خطبتها. و بعد عامين كانت قد تزوجت مغتربا و طارت الى ما وراء الغيم ، تاركة لى هم القبيلة التى ازدادات عددا . و ذات مساء قررت الرحيل . هكذا داهمتنى الفكرة دونما سابق انذار . شعرت بأن أبى قد سرق نصف عمرى و ان فروعه التى خلفها فى تربة شجنى ستسرق النصف الاخر منه . التفت الى خالى الذى يسعل فى منتصف الحوش و لأول شعرت ببغض غريب له و لمن حوله . هتف صوت فى رأسي " أين حقك في الحياة ؟" لم أحادث أحدا تلك الليلة . و صباح اليوم التالى حزمت حقيبتى و غادرت الى تلك الدولة و معى اقاربى الحقيقيون : دولارات يقمن صلبى . و هناك انفقت شهرين على شاطئ البحر . ملأت رئتى بنسائمه و عينى بأمواجه و أجساد الغاديات الرائحات ممن يمتصصن الحياة حتى آخر قطرة . غاصت فى مكان قصى صورة قريتى الجرباء ووجوه اخوتى الموتى . علمت لأول مرة بأنني كنت في البداية أقدم لاخوتى ما قدمت حبا فيهم . ثم تحول الأمر إلى سعى منى للمحافظة على صورة رسمها لى مجتمع متهالك . و الصورة عنكبوت فى الاصل . ثم عدت إلى قريتى لأجد خالى مسجى على سريره . صاح الصبية فى هستريا " منتصر جا . منتصر جا " . هرت كلاب الحى فى وجهى غضبا بينما حدقنى شباب الدروب فى استنكار لا متناه . هاجمنى اخوتى و اخواتى . تلك بلاد تستكثر عليك العيش سعيدا و لو شهرين فى ثلاثة و اربعين عاما . تلك بلاد مجنونة تدير ظهرها للمعقول و تسافر فى غياهب ثقافة شفهية من دوبيت انبته صعاليك ما . لم استكن هذه المرة بل صحت فى وجوههم " مرحى بكم يا شواهد القبور . من اليوم قررت ان يموت خالى لاحيا انا " . ثم صرت اقهقمه . داهمنى جوع غريب للضحك . فجأة شعرت باننى لم اضحك فى حياتى يوما . فصرت اقهقه و كأننى اريد استلال ما سلب منى من ضحك من بين براثن ماض مجحف . فى تلك الليلة توفى خالى بالسل . و قيدنى الاهل و احضرونى الى هنا بدعوى اننى مجنون " . خرجت من المستشفى و صدى صوت " منتصر " يرن فى رأسي كالطبل . بدت لى الشوارع مضيئة على غير عادتها . دلفت إلى بيتى فى هدوء و تأملت وجه زوجتى المقدود من صخر . ابنة خالتى التى اضطررت للزاوج منها انصياعا لرغبة والدى . سألتنى و هى تتأمل مسلسلا مملا فى التلفاز " اتعشيت برة ؟ " . هرعت الى التلفاز و ركلته بقدمى فى عنف و صحت فى وجهها " انت طالق بالثلاثة " . ثم أخذت ابحث فى ثنايا دفترى المغبر عن رقم هاتف حبيبتى القديمة !!! مهدى يوسف جدة [email protected]