يعتبر المجتمع السوداني نموذج لفلسفة التحولات الاجتماعية، فهو يحتوى على مجتمعين منفصلين في الظاهر وهما مجتمع التحولات (مجتمع الوسط) بالاضافة الى المجتمعات الحقيقية التي تولد منها مجتمع التحولات، ورغم الاختلاف الظاهر على السطح بين مجتمع تحولات عربي ومجتمعات افريقية الا ان الدارس للمجتمع السوداني ككل يري التكامل بين مجتمع التحولات والمجتمعات الحقيقية في مختلف مناحي الحياة، فمجتمع التحولات رغم مجافات نخبه لتلك المجتمعات الا انه يتغذي منها بالقيم والعادات التي تمثل ملح الحياة الانسانية، اما المجتمعات الحقيقية فتستفيد من انسان التحولات الذي يمدها برؤية متجاوزة لرؤيتها القبلية، بالاضافة الى ان انسان الوسط يمثل لتلك المجتمعات في ذاته شكلا وفكرا حالة انسانية ذاتية تجمع وتوحد كل تلك المجتمعات. وكان يفترض ان يتوحد الوعي الجيني مع الرؤية الكلية من جانب مجتمع التحولات لقيادة المجتمع السوداني من مرحلة القبلية والعشائرية الى المرحلة الثقافية، ولكن مع القصور النخبوى الحادث والاتكال على الفكر العروبي (الاسلامي) ثم بعد الاستقلال اعتماد التوفيق بين الرؤية العربية والغربية في محاولة تشكيل الثقافة السودانية، نجد ان ذلك افضى مع الزمن الى تقارب الخطاب النخبوى (حول الديمقراطية والاسلام والاستهلاك الزائد لتلك المفاهيم دون انتاج فكر حقيقي) مع خطاب الانسان العادي، فتوجد فوضى وكثرة في الحديث نتيجة لتداخل الرؤى الغربية والعربية بالاضافة الى الواقع السوداني، فكل فرد اذا كان نخبوى او انسان عادي اخذ جزئية من كل ذلك وبني عليها رؤيته الكلية مما قاد الى الاختلافات الحادثة رغم الاتفاق الظاهرى ومحدودية المفاهيم، فاذا نظرنا لم يقولون بالاسلام فقط تجد الاختلافات قد بلغت اقصى مدى لها بانشقاقات انصار السنة او انشقاقات الحركة الاسلامية وغيرهم الكثير دعك من الذين يقولون بالاسلام والديمقراطية او بالعلمانية وغيرهم. اذا اذا لم تبتدع النخب خطاب فكرى حقيقي بعيدا عن استهلاك المفاهيم العربية والغربية يتوحد مع ذاته في ادراك الواقع المباشر وليس الواقع المتخيل (اي ان ننتقل من مفاهيم المجتمع الاسلامي او المجتمع الديمقراطي الى المجتمع السوداني) وبالتالي يختلف عن خطاب الانسان العادي، غير ذلك سنظل في حالة التوهان الحالية وسيكون المجتمع مرجع بالنسبة للنخب في الفكر عكس المفترض ان تكون النخب هي مرجع المجتمع فكريا. النخب السابقة واهدار الفرص: لقد ضيعت النخب السابقة الفرصة تلو الاخرى لتوجيه نقد حقيقي للرؤية العربية والغربية ومحاولة تجاوزهما، فالنخب السودانية التي تتبني الفكر الغربي انخدعت وخدعت الغير بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان دون ان تسعي الى الوعي بعمق الرؤية الغربية وتوجيه نقد حقيقي بما تدعيه وبما هو حادث بالفعل، لم تقوص تلك النخب داخل الفلسفة المادية ومفاهيمها لترى كيف عالجت تلك الفلسفة مشكلة الله ومشكلة الوجود والمشكل الانساني، لم تدرك قصور المنهج الفيزيائي القائم على القياس المادي للانسان على ادراك الوعي الجيني، فذلك المنهج قاد الى علو الطبيعة على الانسان، بالاضافة الى مفهوم الفردية الذي هو تغريب حقيقي للانسان عن مجتمعه الحقيقي وتواصله المباشر معه، مما ادي الى نحت مفهوم المجتمع التخيلي (الدولة) والذي تشكل ليستوعب فقط الانسان الغربي وتحولات الذاتية ولا يستوعب المجتمعات الاخرى التي تختلف في تحولاتها، ويستوعبها فقط اذا تخلت عن كليتها الاجتماعية واثبتت فرديتها ورات ان النموذج الغربي هو النموذج للحياة الانسانية. فاذا لم تتجاوز النخب السودانية السابقة الشعارات البراقة للفكر الغربي وتتمكن من الدخول الى عمق الفلسفة المادية لا تستطيع ان ترى الاختلاف بين الفكر والواقع. فرغم تعددية الفكر والمفكرين الغربيين الا انه قائم على رؤية في العمق واحدة وهي الفلسفة المادية وهي في عمقها ايضا تمثل الانسان الغربي الابيض، فالنخب الغربية صاغت المفاهيم من خلال مشاهداتها لمجتمعها واعتبارها جزء من ذلك المجتمع ثم بعد ذلك حاولت ايجاد رؤية كلية ولكن يظل مركز الرؤية هو الانسان الغربي، فلا يمكن لذلك الفكر ان يؤدي الا الى الانسان الغربي، ومن يريد ان يتبني ذلك الفكر عليه ان يجعل الانسان الغربي نموذج وان يحاول ان يصبح هو ومجتمعه مثله. فلا تستطيع من خلال الفلسفة المادية ان تحلل مجتمعك ولكن يمكن لك ان تجعل من مجتمعك مسخ شبيه بالمجتمع الغربي. اما النخب السودانية التي تتبني الفكر العربي فازمتها من ازمة ذلك الفكر، فاذا كان الفكر الغربي يسمح بوجود اخر مختلف بصفة اخر اقل مرتبة كما نجد في صفات الشعوب البدائية والمتخلفة والاقل نموئا وغيره، فرغم ذلك يعد الفكر الغربي افضل حالا من الفكر العربي المسمي بالفكر الاسلامي ليس لعدم سماحه بوجود اخر مختلف ولكن لسعيه الى قتل كل اخر يسمي نفسه مختلف او يسعي الى الاختلاف. تلك اول ازمات الفكر العربي واعمقها ولكنها ليست الوحدية، وكما هي النخب السودانية التي تبنت شعارات الفكر الغربي تبنت ايضا النخب السودانية التي تنتمي فكريا الى الرؤية العربية ايضا شعارات تلك الرؤية مثل الاسلام والشريعة والمساواة الانسانية، ولم تستطع ايضا النخب السودانية ان تحاول ان ترى كيف عالجت تلك الرؤية مشكل الله والوجود والانسانية، ولم تدرك ان تلك الرؤية لا تمثل سوى فترة التحولات التي مر بها المجتمع العربي اثناء الرسالة، فقد تم تجميع مفاهيمها من ذلك المجتمع وصياغة رؤية كلية على ذلك لا تدل الا على مرحلة التحولات تلك، ولم يتم نقد ذلك الفكر العربي المتخبي خلف الاله، فاذا كانت الثقافة الغربية قد تركت الباب مفتوحا لمراحل التحولات بالنسبة لمجتمعها ولم تؤرخ لفترة زمنية محددة فكان الانسان والمجتمع الغربي هما النموذج وعلى النخب صياغة فكرها على ذلك الاساس، نجد ان النخب العربية ومن خلال حرصها على تبعية ذلك الفكر للاله قد اغلقت ذلك الباب بالنسبة لمجتمعها للتواصل معه لذلك لم يدل الفكر العربي الا على مرحلة تاريخية احادية. اذا رغم استخدام تلك الثقافات لمفاهيم ايدولوجية صادمة في صراعها مع الثقافات الاخرى وحتى تثبت افضليتها وتمرر من خلال تلك المفاهيم كل قيمها وفكرها وهي مفاهيم العلم عند الثقافة الغربية ومفهوم الدين عند الثقافة العربية الا ان كل الفكر بما فيه تلك المفاهيم عن الدين والعلم ما هي سوى افكار قابلة للاخذ والعطاء داخل الرؤية الكلية للانسانية اذا فقط تشربنا بفكر حقيقي. النخب الصاعدة والفكر الحقيقي: لن نبكي على الزمن الذي اضاعته النخب السابقة وهي تسير خلف الفكر العربي والغربي وترى ما يفعله ذلك الفكر بمجتمعها من حروب وتدمير ذاتي للاخلاق والقيم السودانية، بل علينا اختراق حاجز الخوف والرهبة الذي تمثله مفاهيم مثل العلم والاله والوجود من اجل فكر حقيقي يضيف لهذه الثقافة ويبعث بها الامل مجددا، ولكن اذا كنا سنطرح اسئلة الله والوجود والانسانية فيجب علينا طرحها من خارج الفكر العربي والغربي حتى لا تكون تلك الاسئلة عبارة عن ملاحق اضافية للعديد من الاجابات التي تحيط بها تلك الثقافات اجاباتها الفلسفية. [email protected]