بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي *( التسلط جعل أهل ميامي متعصبين في الرأي..) - سلمان رشدي- رواية (غضب) ص47 .. همس جورج أورويل مرة بهذه الشكوى : (ماذا أفعل إزاء جاهل أكثر ثقافة مني؟) جاهل أكثر ثقافة! لاشك في أن هذه العبارة تنطوي على تناقض، ولكنه تناقض ظاهري وحسب، نحتاج من أجل إزالته إلى استبدال كلمة (ثقافة) بكلمة أخرى: (قراءة) أو (معلومات) مثلا ً. أجل هناك عدد كبير من الناس ممن يمتلكون نهماً شديداً للقراءة وإدماناً على جمع المعلومات، ولكنهم، ولسبب ما، لا يقرؤون إلا نوعاً معيناً من الكتب، ولا يعبؤن إلا بجمع نمط محدد من المعلومات والحصيلة: خزينة مترعة بالأفكار الخرقاء والمعلومات الخاطئة (ثقافة) لا عقلانية، تجافي الواقع وأسس العلم، بل وبدهيات العقل. إذا ما قابلت أحدهم فإنك ستميزه على الفور، فرغم أنهم لا ينتمون إلى أي منظمة، ولا يتلقون تعليمات القراءة من جهة محددة، فإنهم، ولسبب مجهول، يقرؤون الكتب نفسها تقريباً، وبالتسلسل ذاته يبدؤون ب (بروتكولات حكماء صهيون) ثم ينتقلون إلى (أسرار الماسونية)، ثم (أحجار على رقعة الشطرنج) ويتبحرون في علم النفس عبر كتب من طراز: (طرق التنويم المغناطيسي) و (كيف تسيطر على من حولك) و (البرمجة العصبية) وعندما يصلون إلى مرحلة الميتافيزيقيا يقرؤون (تنبؤات نوستراداموس) و (علم الأرقام عند القبالا) و (حضارة الأطلنطس) و (عجائب مثلث برمودا) ومؤخراً أضيفت (شيفرة دافنشي) كنوع من التحلية. وفي النهاية يخرجون من كل ذلك بمجموعة من اليقينيات الصلبة العصية على الاختراق، معتقدين أنهم أزاحوا تلك (القشة) التي تختبئ تحتها الحقائق المطلقة الموجودة هناك منذ الأزل والباقية إلى الأبد. يسيرون بين الناس بابتسامة متعالية تنم عن اعتزازهم بما يملكون من أسرار لا يعرفها سواهم، متباهين بالجوهرة المكنونة التي خرجوا بها من (بحار العلم) : نظرية – مسلمة صالحة لتفسير كل شيء – كائنات الأطلنطس التي تخطف السفن وتسقط الطائرات في برمودا، ومنظمة (أو بضع منظمات) خفية رسمت، منذ زمن قديم، مؤامرة شيطانية تنفذها حرفياً، محركة مجرى التاريخ بكل تفاصيله، بدءاً من أول انشقاق وصولاً إلى ثورة (يناير) في مصر. بالطبع يجب ألا نأخذ هؤلاء على محمل الجد، فهم يضفون شيئاً من المرح على عالمنا الكئيب ولكن المقلق أن بعضهم يحتل مواقع ثقافية وعلمية وعملية مؤثرة، وذلك الطيار الذي خرج بنظرية عدم دوران الأرض ليس المثال الوحيد. منذ فترة قابلت رجلا ً يحتل موقعاً مؤثراً، وقد فوجئ بمدى جهلي، وراعه أنني لا أعرف شيئاً عن الأيدي الخفية التي تحرك العالم منذ مئات السنين، ولا عن كائنات الأطلنطس التي بنت الأهرامات، ولا الطاقة الإيجابية الموجودة في الرقم خمسة أو الطاقة السلبية الموجودة في الرقم ثمانية، ولا عن حقائق الأطباق الطائرة التي تخفيها بعض أجهزة المخابرات العالمية عن الناس، ولا عن الأنساب الحقيقية لعائلات زرعتها منظمات شريرة بيننا، ولكم أدهشه أن يؤمن رجل تبدو عليه سمات العقل مثلي بأن جبلا ً جليدياً هو الذي أغرق سفينة التيتانك (شرح لي نظرية معقدة ملخصها أن الأحرف التي تتكون منها أسماء القبطان ومساعديه تقابلها أرقام مشؤومة كانت هي السبب الحقيقي وراء الغرق بدافع الانتقام أخذت الحديث بعيداً، ثم انعطفت إلى عبارة أرويل السابقة (هذا ماسوني). [email protected]