فجأة وبﻻ مقدمات توقفت بنا العربة وتعطلت بشارع النيل بالخرطوم والمساء يرخي سدوله ويعلن عن ظﻻم جديد يعم المكان وبينما نحن نحاول اصﻻحها بالتنظير والمحاوﻻت البائسة وبﻻ جدوي تقدم نحونا وجه سوداني صارم النبرات وقال بلطف جهوري أن المكان غير مسموح فيه بالتوقف وأن علينا ان نتقدم قليﻻ بعيدا عن هذه البقعة من اﻻرض وافقنا سريعا وشرعنا باﻻبتعاد وهو يساندنا بزيه العسكري المميز ب (دفرة) لم تستطيع جلب اﻻمال باصﻻح قريب فطفقنا عن بعد نتأمل المكان ريثما يهرع لنجدتنا مصلح يستحيل وجوده في هكذا اوقات من الليل علي ذلك الشاطئ الحزين . حدقت مليا في المكان الذي يحرسون ولدهشتي فقد وجدته محفورا في الذاكرة بذات رحابة مبانيه القديمة وبواباتها الواسعة المطلة علي النيل القديم وان خفتت اﻻضاءة وتحلقت حول المبني بعض من مظاهر عسكرية لم تقطع عني سيل الذكريات الحميمة يا إلهي فانني امام ما كنا نسميه سينما النيل الأزرق الجميلة اعلي المبني تطل ﻻفتة رئيسية تعلن بصرامة ان اسم المكان الجديد هو إذاعة القوات المسلحة فخفضت من نظراتي وذكرياتي قليﻻ كما ينبغي عند مﻻقاة العساكر والجنود . كم كان بهيا وودودا ذلك المكان والناس تقصده بابتسام يمنون النفس بقضاء امتع اﻻمسيات-اﻻسر الكريمة وطﻻب جامعه الخرطوم والشبان من كل ارجاء المدينه يسرعون الخطي للحاق بآخر ما انتجته السينما العالمية .. كأني اشتم عبق السبعينات ورحيقها المشبع بحركة الثقافة والفنون باغانيها وهجيجها الداوي بقمصانها الرجالية البيضاء وبنطلونات الأبازين واسطوانات ديمتري البازار وسندوتشات جورج مشرقي وشاشة تلفزيونها غير الملونة يطل منها متوكل كمال وليلي المغربي وفريد عبد الوهاب وصديق احمد حمدون وهي تعلن بين برهة وصداها عن احذية تومشيك وباتا ولوري هينو 7 طن الجديد ومالك الزاكي وبرنامج صور شعبية يحتفي بالسودان المتنوع سودان السينما والفنون والمسرح وخطوبة سهير واهازيج البﻻبل ووردي وعثمان حسين كانت السينما نشاطا متقدما في السودان تقدم عبر عشرينا او يزيد من دور العرض افﻻما تناسب كل اﻻذواق . نطالع صور ابطالها المحببين في اعﻻنات ملونة اعلي دور العرض ونتخير بين اﻻفﻻم من الكاوبوي ﻻفﻻم الجاسوسية وافﻻم الغرام وافﻻم العنف واﻻثارة فعرفنا عبر شاشاتها الرحبة ترنتي وشاشي كابور وهونق كونق وفريد شوقي وفاتن حمامة ومحمود المليجي وكلنت استوود .. ومارلون براندو .. وجون ترافولتا . وكانت لدي البﻻد مؤسسة ترعي نشاط السينما يسمونها بﻻ مواربة مؤسسة الدولة للسينما هذا بخﻻف ماكان يعرف بالسينما المتجولة التي تهب متعة المشاهدة للفقراء في اطراف الخرطوم المثقفة تنشر الصحف صباح كل يوم جديد عناوين اﻻفﻻم المقدمة من سينما الصافية والخرطوم غرب وكولوزيوم والحلفايا والنيلين تحت عنوان أين تسهر هذا المساء ؟ ما الذي حدث إذن فأحال الخرطوم الي مدينة حزينة كأنها سوق لبيع التوابيت والحرب علي الحياة والجمال والفنون . لماذا يقبع جيش البﻻد العظيم في بقعة تعارف الناس عليها بانها دار للخيال والثقافة والجمال . ماذا تفعل هذه اﻻذاعة بباحة العرض الكبيرة ومقاعد اللوج والمساطب الشعبية وهي ﻻتحتاج بحسب تقدم التكنلوجيا اﻻن ﻻكثر من شقة صغيرة من مكاتب العمارة الكويتية .. لماذا يمكث الجيش العظيم في مكان تندلق من جوانبه ذكريات عظيمة وشوق للتﻻقي من جديد .. هﻻ تكرم جيشنا العظيم بانهاء حالة اﻻستثناء واعاد لنا المبني مجددا مكانا نادرا للتثاقف والفرح بجوار النيل اﻻزرق الحميم لقد خطت السينما السودانية خطوات في طريق النماء فانتجت افﻻم احﻻم وامال والحبل لشداد وافﻻم جاد الله جبارة وعرس الزين وتاجوج وغيرها قبل ان تعلن جهة ما انتهاء عهد اﻻماسي السينمائية في البﻻد وتهدم سينمات وتباع دورا لتضحي مابين مول مشيد ودور معطلة تحولت امسيات الخرطوم الي برامج تناول اﻻكل واللحوم واﻻسماك كأعلي حاﻻت الترفيه اﻻسري واﻻحتفاء بالضيوف حتي قال لي ضيف مصري ممازحا: بعد ان استقبلناه بحزم واوسعناه شربا وأكﻻ في المطاعم .. الله إيه دا ؟-هو انتو الترفيه عندوكو يعني أكل ؟ مافيش سيما؟ مافيش مسرح ؟ نعم ياضيفنا الفاضل لقد حكم علينا ان يكون ترفيهنا واحتفاءنا بالضيوف ضرب فقط من اﻻسماك واللحوم والكوارع وكأنما ستصدر الصحف قريبا وهي تحمل اعﻻنات مطاعم الشواء تحت عنوان جديد يقول بﻻ وجل .. أين (تسعر) هذا المساء . والله المستعان