بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي * (يمكن لأي شخص أن يجلس ويغمض عينيه متأملاً في برهان حقيقة الوجود أو عدمه، في هذه الأثناء سأجلس بعيون نهمة كي أرى الوجود..). - طاغور - .. هم عاقلون بلا أدنى سبب أمّا نحن فمجانين بألف سبب. هم يستخدمون العدّادات الإلكترونيّة في المصارف التي تشتمّ فيها رائحة المال والسّطوة والإذلال أمّا نحن فنعدّ النقود بالأصابع الطرّية والأمنيات القريبة – ونطيل في عدّها – وقد نوقعّ عليها لعلّها تعود إلينا يوماً كحمام زاجل. هم يختنون سيجاراتهم الكوبيّة بالمقصّات المذهّبة ويشعلونها بأوراق الصّنوبر الجافّة أمّ نحن فنلعقها بالألسنة الطريّة ونعيد إشعالها بولاعة رخيصة أو بكبريت وطنيّ أصيل، ربّما نقلع يوماً عن هذه العادة العلنيّة لسبب جيبيّ لا صحي. يستأنفون حديثهم عن المال والأعمال أمّا نحن فنتحدّث عنهم وعن العيال والحب.. وقد لا نتحدّث. هم يختفون وراء نظّارات سوداء أمّا نحن فنختفي في وضح النّهار خلف نظراتنا وأقلامنا وتسامحنا ودخان سيّاراتهم. هم يقلبون الذهّب إلى تراب أمّا نحن فنقلب التراب إلى تراب. هم يبسملون ويقرؤون الفاتحة في الصّفقات أمّا نحن فنقرؤها أمام قبور الأهالي. هم يتقنون الحديث عن الحب ونحن نتقن الحب. الحب... دعارة الفقراء كما قال صديقي الشاعر. الحب سلاح العزّل وهادم المخاوف ومفرّق العذاّل. وحده يعلّمك الأناقة والكياسة والخجل وتحدّي الجبابرة واحترام القلوب قبل الجيوب. وحده يجعلك تسرق العطر والوقت والقبلات دون أن تندم أو تطلب صكّ غفران. وحده يجعلك ليّناً تعصر ويبساً تكسر وحيّاً تقبر ثمّ تقوم من جديد كربيع أقسم أن يعود في الربيع القادم. وحده يجعل الشعراء عملة متداولة غصباً عن الصّيارفة وأمراء البورصة وزوجاتهم. ما أتعس أن يقول إليك واحد – أو واحدة – لا أحبّك، أعتقد أنّها أبغض من كلمة (أكرهك) لأن الأخيرة توجد في قاموس الورق ولا أظنّها توجد في قاموس الحياة. ما أقسى أن تأوي إلى سرير لا يغطّيك عندما تبرد ولا تصطدم فيه بالحب عندما تتقلّب ولا تهجره عندما تزعل ولا تتمنّى نشره إلى نصفين عندما تملّ. ما أسوأ أن لا ينتظرك غير بواب البناية وفواتير الماء والكهرباء... والكوابيس. ما أروع أن تفتح الباب فينفتح ذراعان.. ومائدة وأحاديث... وشهيّة للحب. ما أجمل الخصومات الصغيرة وما أسوأ التفكير فيها... وما أحلى تذكّرها. ما أقدمنا نحن العشّاق وما أحدثهم – بل ما أبلدهم -: محدثي النعمة والثّقافة والكذب والنّكات. قيل لعاشق: كم مرّة يجب أن تحب، قال: كم مرّة يجب أن أموت، وقيل لحاقد كم مرّة يجب أن تكره، فسأل: كم مرّة يجب أن أحيا. لننظر إلى المتجهّمين العابرين في شوارعنا... إنّهم عشاق مهزومون، ولننظر إلى المبتسمين.... لنمعن النظر جيداً.... إنّهم عشّاق لم يتجهّموا بعد. قال ايليا أبو ماضي: كم تشتكي وتقول: إنّك معدم والأرض ملكك والسّما والأنجم. ما أروع هذه المواساة، كم شخصاً ملك السماء والأنجم ثمّ ورّثها لغيره وغاب كشهاب يرجم كارهيها..!؟ كم مجنوناً اشتكى سرّه لليل يجنّ وخجل من نهار يعقل. قيل أنّ ليلى مرّت من أمام قيس وهو يهذي بحبّها فقالت: ها أنا ليلى يا قيس، فعلامك تهجس بإسمي؟! فقال: دعيني يا ليلى.. إنّي مشغول عنك بحبّ ليلى.... وقال نزار: ضمّني إليك يا قاسيون ولا تسأل عن جنوني ذروة العقل يا حبيبي الجنون. وقال ابن حزم الأندلسي في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والألاّف) : الحب – أعزّك الله – أوّله هزل وآخره جد... صدق هذا الشيخ الأندلسي.. ما أسوأ حبّاً يبدأ بالعكس – مثل الأفكار الثوريّة – أي أنّ أوّله جدّ وآخره هزل، ربّما يفتتح أحدنا برميل الحبّ من أسفله... ولكنّه الحب الذي يدعونا لتناوله من كل الأطراف والجوانب والإتّجاهات كتفّاحة... تفّاحة السقوط والخطيئة والانحدار والغواية الأولى. تفّاحة لا يقترب منها إلاّ المجانين – مجانين الحياة – ويعلم ابن حزم قبل غيره أنّ مواطنه ابن زيدون كتب قصيدة نهى عن حفظها وتداولها الدّارسون وتشاءم منها العشّاق بذريعة أنّ من يحفظها يصاب بمثل ما أصيب به عاشق بنت المستكفي ويقول: أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي عليها الأسى لو لا تأسّينا. [email protected]