من المعروف أن المراحل الإنتقالية تكون هي الجسر الرابط والناقل لأليات الحكم من النفق المظلم للنظم التي يحطم مفاصلها داء الفشل عبوراً الى فضاءات العمل الوطني الديمقراطي القائم على أعمدة الإرادة الشعبية بعد التوافق على الدستور الدائم وتشكُل هرمية الحكم و بناء مؤسساته المنفصلة باستقلاليتها ووفق الحرية التي يحكمها القانون و التي تصب في مصلحة الجميع .. لاجماعة بعينها! لكن حتى حينما يرفع النظام المستهدف بالتفكيك رأية الإستسلام لفرضية التحكيم للحكم الإنتقالي إذا ما إتجه الى العقلانية الوطنية .. فغالباً ما يشترط قصر مدتها حتى تكون عنده الفرصة كبيرة ليعود ركوباً على متون جاهزيته أكثر عن القوى الوطنية الأخرى التي ستسعى الى تدبر أمر بيتها الداخلي ولكن وفق مدة تريدها طويلة نسبياً لتعيد لها توازنها الذي إختل في شتاتها بسبب ذلك النظام الذي حكم طويلاً بعقلية الإخفاق المبنية على الإقصاء! لدينا في السودان تجربتان .. الأولى عقب ثورة أكتوبر .. حينما وقفت الطائفية والأحزاب الكبيرة على ضفة واحدة .. فسحبوا البساط من تحت اليسار الذي توسد على أغلبية أرائك حكومة أكتوبر .. فاستعجل ذلك التحالف اليميني الإنتخابات التي أفضت الى عودة أهل اليسار بقوة عبر دوائر الخريجين .. فأعادت صفوف اليمين ترتيب تراصها مرة أخرى مهلوعة ولكن هذه المرة يتبعون هم أهل جبهة الميثاق الإسلامي لدفع النواب الشيوعيين الى خارج البرلمان بعد إعلان حل الحزب الذي يمثلونه من داخل قبة الديمقراطية النيابية رغم رفض المحكمة الدستورية العليا للأمر شكلاً وموضوعاً في ظاهرة كانت المسمار الأكبر في نافوخ الديمقراطية السودانية الذي لم يتعافى من إرتجاجه بعدها .. وكان واحدة من العلل التي داواها النميري بذات الداء القومي الإنقلابي الذي سمي بثورة مايو الظافرة المسنود من مصر الناصرية وبعض النخب اليسارية والذي مكن من سكرة الديكتاتورية الى يومنا هذا وجعل من الوطن متأرجحاً الى الوراء قروناً من الزمن ! ولعل تجربة قِصر المدة التي تعجّل فيها ذات التحالف إجراء الإنتخابات رغم علمه ويقينه بأن ذلك ما يتوق له جماعة الجبهة القومية الإسلامية عقب إنتفاضة ابريل والذين أرادوا استغلال غبار المرحلة للوثوب على سرج جاهزيتهم الموهط على حصان الفرصة التي هيأها لهم مجلس سوار الدهب مكتفياً لنفسه بشكرة المثالية كغنيمة إياب الى السكنات ! وذلك على الرغم من أن الحزبين الكبيرين الأمة والإتحادي الديمقراطي قد حققا نتائج كانت مخيبة لآمال الجبهة القومية الإسلامية التي ظنت انهما لا يمكن لهما ذلك بعد ستة عشر عاما من البيات الطويل في ركامات ثلوج شتاء مايو..وسيخلو لها الجو لتمتطي الديمقراطية وسيلة لغاية ديمومة التمكين .. فلم يرضوا بذلك الفوز بالمركز الثالث في إئتلاف الحكم اليميني الطائفي الذي كان غير مستحق لولا تلاعبهم في ظل حكومة الجزولي التي تركت لهم حبل قوانين الإنتخابات وتقسيم الدوائر على غارب الطناش المتعمد المدعوم بتملكهم للمال وتسربهم في مسامات الجيش و الأمن والخدمة المدنية .. فنكصوا على أعقابهم عن ديمقراطية لن توصلهم سريعاً الى مايريدون .. فكان ما كان في ليلة الثلاثين من يونيو 1989 تلك الحركة المشئؤمة التي تسمت فجوراً بثورة الإنقاذ ! فالمرحلة الإنتقالية يجب أن تعني إذاً بعد كل تلك التجارب التي لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان ابداً.. صنع التابوت لنظام الإنقاذ و الإسلام السياسي ولا غضاضة في بقاء الإسلام الدعوي خارج لعبة السياسة ... و من ثم تكون مرحلة إعداد العش الحاضن للمستقبل في دولة مدنية ديمقراطية وطنية .. خالية من أجندة المؤتمر الوطني الى الأبد إذا ما نصبت على ساحة عدلها المحايد موازين المحاسبة العدلية التي ستطيح مقاصلها بكثير من رؤوس ورموز النظام على مختلف أزيائهم العسكرية والمدنية .. وستنثقب فيها الكثير من الجيوب التي إنتفخت بالحمل السفاح من المال العام أو عبرالزواج العرفي تحايلاً على شرع الله والمجتمع ! وهو ما سيجرد بصورة تلقائية الحزب الحاكم من حق إحتكار معطيات الدولة المادية واللوجستية والإعلامية والعسكرية التي جيرها لمصلحته حتى اصبح الفاصل بينه وبين الدولة وهمياً ! وبالتالي فأنه سيعود كسيحاً على أرض الحبو من بداية الطريق إذا ما قدر له البقاء وفق أحكام وشروط الدولة المنشودة ولن يستطع المنافسة وإن كان منافسوه ليسوا اقل كساحاً عنه ! لذا فلن يسلموا اللحى للحالمين بمرحلة إنتقالية تقود الى مخرج جل مفاتيحه في جيوب اهل المؤتمر الوطني والإسلاميين القابضين عليها بأكف التذرع بالمضي على مسارات الحوار الوطني وهم في ذات الوقت يعرقلونه باقدامهم من الأسفل ، إسقاطاً لكل محاولات نهوضه على سيقان توحد المعارضة الهادف الى بسط كل قضايا الوطن على صعيد واحد ! وما محاولات شغل الناس بلعبة الإنتخابات إلا من قبيل حرق المراحل وكسب الوقت للملمة الشعث الإسلامي في سلة واحدة للنجاة أو الإحتماء ببعضه وهي التمثيلية التي سخر منها حتى الخال الرئاسي الطيب مصطفى ربما لدوافع شخصية تجاه قريبه رئيس الجمهورية الذي يريده الخائفون من الغرق لوحدهم أن يعبر بهم الى اي بر يجنبهم كابوس الحكومة الإنتقالية أو يغرقوا سوياً مثلما بدأ معهم بلل الإنقلاب في تلك الليلة الحالكة التي غدت بدورها كابوساً طويلاً على هذا الوطن المنكوب بهم في حالته الفريدة ! [email protected]