بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي *(حاجة الناس إلى إمام عادل أكثر من حاجتهم إلى إمام خطيب..). - عثمان بن عفان - جج .. كيف لي أن أنسى ذلك المدرّس الظريف الذي دخل علينا أوّل أيّام الفصل الدراسي منذ ما يزيد على ربع قرن، قدّم نفسه بعجالة ثمّ أمسك بالطبشور وكتب على اللّوح بلغة إنجليزية رشيقة: (كلّ رأي هو محترم بالضرورة).. نظر إلينا باحثاً عن اعتراض أو رأي مخالف بشأن الجملة التي خطّها فوجد الوجوه تقول له بحياد صامت: (وما الجديد الذي أتيت به أيها المتشاطر)؟!.. ابتسم بمكر العارف ثمّ أردف: (أنا أقول: لا..، أنا ضدّ هذا الرأي)! ردّ عليه أحد المتسرّعين من المتذاكين: (لا يا أستاذ، كيف لا تحترم رأيا مهما اختلفت معه)؟!..، أجاب الأستاذ بهدوء: هذا رأيي على كلّ حال، وعليك أن تحترمه بالضرورة وغصباً عنك. س [ لنتذكّر ما قاله فولتير: (قد أختلف معك في الرأي ولكنّي أدافع عنك حتّى الموت كي تقول رأيك..). ليت الإنسان جعل هذه العبارة حجر زاوية يبني فوقها حضارته كي لا نصل إلى مرحلة الخجل من عالم الحيوان الذي لا يأخذ من الطبيعة إلاّ حاجته ولا يسكت أصوات غيره ولا يضطرّ للحديث عن الحقوق والواجبات ويشغل العالم بالمنابر الإعلاميّة. الرأي.. يا لهذه المعضلة الأبديّة التي قامت لأجلها الفتن وأقيمت لأجلها المحاكم وقطعت لأجلها الألسن والرقاب والتذاكر للسفر والهروب. لماذا يخشى الإنسان ويحارب رأياً يخالفه، هل للأفكار أسلحة ومخالب وأسنان؟.. هل للأفكار عدوى لا تنفع معها التلقيحات والتّحصينات؟.. لا شكّ في أنّ للآراء ما هو أخطر من ذلك، إنّه التأثير فيمن لا رأي لهم أي أولئك الذين يسوّقون الأفكار بغير الأفكار، بلغة العنف والإلغاء والإقصاء. وإذا كان الرأي حكم قيمة يصدره العقل البشري في أمر ما بعد القراءة والتحليل والاستنتاج فهو يرتقي فوق مفهومي الانطباع أو الشهادة اللذين يمكن لهما أن يتوفّرا لدى أي شخص كان. تحيلنا عبارة (أهل الرأي) لدى الأقدمين إلى أنّ الرأي حالة نخبويّة بالضرورة تتطلّب المعرفة والنزاهة والحريّة والنفوذ المعنوي كي تضمن وجودها والإنصات إليها، وقديما قالت العرب: لا رأي لحاقن ولا رأي لجائع ولا رأي لجاهل ولا رأي لخائف. كان للملوك والقادة والحكّام منذ فجر التاريخ بطانة يستأنسون لآرائها ويستشيرون رجالها في القرارات المصيريّة، لذلك مازال الناس يدعون في صلواتهم إلى إصلاح البطانة قبل إصلاح السلطان فكم من رأي أهوج جلب الويلات والكوارث على رؤوس متخذيه وصدق من قال: الرأي قبل شجاعة الشجعان وكم من ناصح دفع حياته ثمنا لتطاول سلطة الرأي على سلطة القرار كما هو الحال في محنة ابن المقفّع مع أبي جعفر المنصور. كانت (كليلة ودمنة) كرة ثلج تدحرجت من حضارة الهند مرورا بحضارة الفرس إلى أن وصلت العرب في أوائل العصر العبّاسي وحملت ما أراد أن يقوله الحكيم الهندي (بيدبا) إلى مليكه (دبشليم) عبر ألسنة الحيوان وكما يرويها اثنان من بنات آوى وهما من أضعف وألطف «مواطني» ذلك المجتمع الغابي. إذا اجتمع الرأي السديد والقرار الصائب كان خلاص الفرد والمجتمع والدولة ولكنّ المعادلة ليست سهلة كما نظنّها على الألسنة والأوراق. تطل علينا بعض الفضائيات من حين لآخر بحوارات صاخبة عن (الرأي والرأي الآخر) وسرعان ما يتجاوز الأمر مجرّد الملاسنة إلى العنف اللفظي ويحلّ الصراخ محلّ الجدال حين تفرغ جعبة المتحاورين من قوّة المحاججة والإقناع. ولأنّ إنساننا السوداني كائن عاطفي بطبعه فغالباً ما ينتصر لمن يرفع قبضة الشعارات البرّاقة التي تخاطب الوجدان والغرائز من دون أن تمرّ من طريق العقل. ثمّة خلل ما يجعل الاستماع إلى الآخر حاجة تمليها مصلحة أو سلطة لا رغبة أو خيار معرفيّا، تماما كما يتحدّث الشاب بإسهاب واستعراض إلى الفتاة الباحثة عن قطار الزواج وهي تنصت إليه غصباً عنها ثمّ تأخذ دورها في الحديث بعد الخطبة ويتحوّل هو إلى منصت جيّد ومستكين رغما عنه ثمّ يبدأان بالحديث معاً وبصوتٍ عالٍ، من دون أن ينصت الواحد للآخر بعد موقعة الزواج. إنّ الذي يجعل من الرأي رأياً هو توصيله والإنصات إليه، أمّا طريقة المخاطبة ففنّ آخر، ألم تكن شهرزاد تخاطب مسامرها في كلّ ليلة بعبارة: (بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي السديد..) مع أنّ شهريار لم يكن سعيداً ولا دائما صاحب رأي سديد. [email protected]