كأى كائن حى فان السودان الذى ولد فى اول يناير عام 1956 ، يدرج الآن على اعتاب الشيخوخة، بكل ما يلازمها من اعراض، خاصة العجز والوهن ، ومنذ مايقارب ستة عقود تتضافر العوامل الداخلية والخارجية فى تقرير مصائر السودان وصيرورته ، وتبين مسيرة السنوات التالية للاستقلال ان جينات البناء والتعمير والبقاء كانت اضعف من جينات الهدم والتدمير والفناء . قبل ثلاثة اعوام انفصل جنوب السودان بعد حرب استمرت قرابة اربعة عقود لاضمحلال عوامل التماسك والتضامن الوطنى والعجز عن بناء سودان جديد بدلا لما خلفه الانجليز ، وقد اعتبرت الاتفاقية التى مهدت طريق الجنوب للانفصال ب" الاستقلال الثانى للسودان". ومن قبل شغلت البلاد بالصراعات التى ظلت تبرر نفسها باعطاء الاستقلال مضمونه الحقيقى ، غير ان السودان الذى تحمل "عبء" الوحدة بين شمالى البلاد وجنوبيها بما فيها من حروب ، اصبح يتحتم عليه تحمل قسط من تكلفة الانفصال، لامن خلال الاستمرار فى التنازع مع الجنوب الذى اصبح دولة مستقلة حسب ، وانما من خلال حروب جديدة فى الجنوب الجديد. ليس صحيحا ان السودان قد ظهر الى الوجود مثل صحن الصينى بلاطق او شق، فقد رافقت حرب الجنوب السودان المستقل منذ يومه الاول ومع الوقت اتسع شق الحرب الاهلية فى بناء الوطن ، وبعد اقل من ثلاث اعوام فقط من رفع علم الاستقلال، شهدت البلاد اول انقلاب عسكرى فى تاريخها على خلفية الفشل الذى وسم الحكم الوطنى ، وما رافق ذلك من صراع على السلطة بعد الاستقلال ، وقد ساهمت الحرب المزمنة فى خلخلة الاستقرار السياسى ، ومنذ ذلك الحين اتسم التطور السياسى للبلاد بماعرف بالدوران فى الحلقة الجهنمية : (انقلاب عسكرى ، انتفاضة شعبية ، انقلاب عسكرى) والآن فان اقاليم أخرى يتفشى فيها العنف تتأثر خطى الجنوب وتتصاعد فيها الدعوة للحكم الذاتى وتقرير المصير والانفصال وتأتى الذكرى ال 59 للاستقلال والبلاد مكبلة بازمات داخلية وخارجية، قديمة ومستحدثة ، تزداد تفاقما يوما بعد الآخر بينما لاتنفسح الافاق عن أى مستقبل مرئى، وقد ادى تراكم مشكلات السودان الى ان يتصدر قوائم الدول الفاشلة فى مختلف المجالات فقد جاء السودان ضمن المراتب العشرة الاولى للدول الاكثر فشلا وهشاشة فى العالم خلال العام الماضى والمرشحة لتدهور الاوضاع بها، وفق تصنيفى (فورين بوليسى والصندوق من اجل السلام) بينما جاء ضمن الدول الخمس الاكثر فسادا فى العالم فى مؤشر منظمة الشفافية العالمية ، وبعد ربع قرن من حكم الاسلاميين جاء السودان فى قائمة أسوأ الدول من حيث معيار القيم الاسلامية ، بحسب دراسة اعدها اكاديميون مختصون من خلفيات مسلمة بجامعة جورج واشنطن ، واحتل المركز الثالث عربيا فى استهلاك الخمور وفق تقرير منظمة الصحة العالمية صدر مؤخراً ، مثلما كان ترتيبه أعلى قائمة الدول العربية انتحاراً، حسب المنظمة ايضا ، فى ظل هذه الاوضاع المأزومة ، فان مستقبل البلاد يبقى موضع تساؤل وعما اذا كان المتبقى منهاحتى الان أو مما قد يجدر ذكره فى التاريخ باسم "شلعوها الاسلاميين"، سيصمد للستين عاما القادمة، فالى جانب عوامل الهدم الداخلية ، على رأسها الانقسامات السياسية والتناحرات العرقية والفساد والاستبداد الدينى والسياسى ، التى تدفع السودان على طريق التفتيت، فان الاوضاع فى محيطه الخارجى تموج وتضطرم بالاحداث الجسام مايرشح المنطقة بمجملها لتغيرات جيوسياسية هائلة ، تحت وطأة العنف العرقى والطائفى المتفشى. اذ يقع السودان فى القلب من المنطقة المضطربة القارة ، التى تمتد من القرن الافريقى شرقا ، الى شاطئ المحيط الاطلسى غربا، ومن السواحل الجنوبية للمتوسط شمالا الى خط الاستواء جنوبا ، ويدفع ضعف القيادات والنخب السياسية الافريقية وعجزها الى استدعاء القوى الخارجية ، للدفاع عن مصالحها التى يتهددها العنف والارهاب. والى تكريس اعادة الاستعمار كحل وحيد للازمات التى تواجهها القارة. وقد يكون التدخل العسكرى والسياسى الفرنسى فى افريقيا الوسطى وساحل العاج ومالى ، بعضا من السيناريوهات المحتملة لتجديد الاستعمار فى القارة ، غير ان التدخلات المبكرة فى الشأن السودانى جعلت من "المجتمع الدولى" الذى تنتشر قواته فى البلاد، شريكا ًاساسيا فى ترتيب اوضاعها الداخلية ، وكما حدث فى نهاية القرن التاسع عشر ، يعيش السودان فى عزلة تامة من العالم الخارجى وفى حالة من الصدام المبيت معه، والذى يعتبر عاملا محددا فى مصائر السودان ، وتتمحور المواجهة المحتملة حول محاور خلافية محددة ، هى التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ، قوات حفظ الافريقية الاممية المشتركة فى دارفور " يوناميد "، والتحقيق فى مزاعم اغتصاب 200 سيدة وفتاة فى غربى السودان، خارطة الطريق الافريقية للحل الشامل لمشكلات السودان، وتتضمن الاخيرة الشروط الاساسية لانهاء الحصار العالمى المفروض على البلاد، بعد 59 عاما من الاستقلال، تبددت فيها كل الامال والتطلعات الفردية والجمعية وتبدد فيها الاستقلال نفسه، كالعهن المنفوش ، يقف السودان على عتبة : يكون أو لايكون [email protected]