في مدينة نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور، تأبى الدماء ان تتوقف، والجراح ان تضمد.. هي مدينة المآسي.. أحداث متتابعة من جرائم القتل والقتل المضاد، ظلت تشهدها احياؤها وشوارعها.. هذه المدينة كأنما لعنة قد أصابتها. تكاد لا تغيب عن مواطنيها مشاهد القتل والاختطاف، فاصبح دوي الرصاص شيئاً مألوفاً لدى سكانها. وإراقة الدماء كأنها لا تفجع أحداً. حكومة الولاية تكاد لا تحرك ساكناً تجاه ما يجري من مشاهد القتل والدمار والخراب الذي يلحق بالمدينة يوماً عقب آخر.. لم يسمع المواطنون يوماً أعلنت فيه الحكومة وسلطاتها المختصة أنها ألقت القبض على متورطين في أي من أحداث القتل الكثيرة التي شهدتها المدينة في وقت وجيز من وقوعها، مما يدرأ عن المدينة اتساع نطاق الأحداث المؤسفة. وأمس انفجرت الأوضاع في "المدينة الباكية" مجدداً، فخلفت قتلى وجرحى وسط المواطنين، بدأت الأحداث على إثر مقتل أحد المواطنين يدعى أحمد محمد داؤود، على يد قوة نظامية، لأسباب غير معلومة، لكن والي الولاية قال ان لجنة أمن الولاية تحفظت على الجاني وسيتم تقديمه الى العدالة. وانفجرت موجة غضب عارمة وسط مواطني المدينة، وفور الفراغ من تشييع القتيل ومواراة جثمانه الثرى، وانطلقت تظاهرات عنيفة من جنوبالمدينة متجهة الى مكتب والي الولاية بيد ان الشرطة فرقتها. وبحسب والي الولاية فإن التظاهرة الليلية خاطبها قائد الفرقة (16) اللواء عادل حمد النيل ومجموعة من القيادات، طالب فيها المتظاهرون بضرورة تحقيق العدالة. وعند صباح أمس، تجددت الاحتجاجات مرة أخرى بمشاركة طلاب المدارس، فاغلق المحتجون الشوارع الرئيسية في المدينة وتعطلت الحركة، كما أغلقت المحال التجارية بالسوق أبوابها، وشلت الحركة تماماً حتى ما بعد منتصف النهار، حينما أفلحت السلطات في تفريق المحتجين بعنف مفرط مستخدمة الغاز المسيل للدموع. فيما نقل شهود عيان ل (الرأي العام) انهم سمعوا دويّ رصاص ينطلق خلال التظاهرة، وقد خلفت الاحتجاجات مقتل شخصان من المواطنين، بينهم طفل، إضافة الى إصابة تسعة آخرين نقلوا الى المستشفى. وكان المحتجون وصلوا بالقرب من أمانة حكومة الولاية حيث مكتب الوالي، يبتغون مقابلته، بيد ان القوات الشرطية التي كثفت وجودها في المنطقة حالت بين المحتجين وأمانة الحكومة. فيما سارع والي الولاية اللواء آدم محمود جار النبي، الى دمغ تنظيمات وحركات مسلحة، بالتورط في الأحداث التي شهدتها حاضرة ولايته أمس، وقال في مؤتمر صحفي عقده عقب تفريق المتظاهرين ان المهزومين في مناطق فنقا بشرق الجبل هم من حركوا هذه المظاهرات. ولفت جار النبي إلى أن (4) من المصابين يتبعون للقوات النظامية، و(5) مواطنين، كانت إصاباتهم متفاوتة. وقال الوالي ان لجنة أمن الولاية وفور وقوع الأحداث، دخلت في إجتماعات متواصلة حتي الساعات الأولى من الصباح، وتأكدت من إجراءات التحفظ على الجاني، ولايوجد مايدعو لإثارة الاضطرابات والنعرات. لكن مندسين -بحسب تعبير الوالي- حركوا مظاهرات اليوم التالي، حيث كانوا يحملون السلاح وأطلقوا الأعيرة النارية وسط المتظاهرين بغرض تجريم الأجهزة الأمنية، ووعد جار النبي بكشف من أسماهم الجالسين في الخفاء، الذين يدفعون النساء والأطفال القُصَّر للتظاهر، وتقديمهم للعدالة. واستنكر الوالي توجه المحتجين في كل مرة الى مكاتب امانة الحكومة، بغرض التخريب، كما استنكر قيام أي فرد أو قبيلة يتعرض أحد أفرادها لحادثة قتل، بالتظاهر ضد الحكومة. وبرر اللواء جار النبي والي الولاية، استخدام الشرطة للعنف المفرط لتفريق مظاهرة أمس، بحماية لنفسها من (حجارة) المتظاهرين. وقال إن الأجهزة الأمنية تعاملت بطريقة (ممتازة) مع المتظاهرين، وكان معها وكيل نيابة يقدر الموقف لاستخدام القوة، وأن الأعيرة النارية التي تم إطلاقها في الهواء كانت بأوامر لتفريق المتظاهرين وحماية لنفسها من حجارة المتظاهرين، بجانب إستخدامها لمسيل الدموع. وكشف الوالي عن إلقاء القبض على مجموعة من المتسببين في المظاهرات، سيتم تقديمهم للمحاكمة. ورغم ان الولاية تخضع الى قانون الطوارئ منذ أكثر من أربعة أشهر بسبب الانفلاتات الأمنية المتلاحقة التي تشهدها الولاية، ورغم أن الولاية ما انفكت تعلن عن ضبط أعداد كبيرة من المواتر في إطار الحملات التي تنفذها للحد من انتشار الجريمة. إلا ان ذلك لم يمنع وقوعها، فظلت حوادث القتل والاختطاف تتلاحق مرة عقب أخرى، لم تستثن حتى دستوريين بالولاية، ولعل أبرز الدستوريين الذين راحوا ضحية الانفلاتات الأمنية في جنوب كردفان معتمد محلية "كتيلة" عبد الله يس، الذي أُغتيل في يوليو العام الماضي، من قبل مسلحين مجهولين نصبوا له كميناً في منطقة "طوال أم بلل" في الطريق بين نيالا وكتيلة، ولاحقاً كشفت الولاية عن تورط عناصر تتبع لقوات الدفاع الشعبي في الحادثة. بينما حوادث القتل والاختطاف التي جرت داخل مدينة "نيالا" ضد مواطنين فعديدة هي، لكن أبرزها حادثة مقتل رجل الأعمال اسماعيل وادي في سبتمبر العام قبل الماضي، في وضح النهار، من قبل مجموعة مسلحة غير معروفة الهوية، مما فجر موجة احتجاجات فاقت تلك التي وقعت أمس بنيالا، وأحرق المتظاهرون يومها مباني أمانة الحكومة بما فيها مكتب الوالي الذي تم إجلاؤه الى مباني القيادة العامة للجيش بالمدينة عقب ان تمت محاصرته من قبل المحتجين حينما لارفض الخروج لمخاطبتهم، كما أحرق المحتجون سيارتين إحداها تتبع للوالي. قبل أن تتدخل قوات الشرطة وتفرق المتظاهرين مستخدمة عنف تجاوز الذي تم مع المحتجون أمس، وسقط يومها حوالي (22) شخصاً ما بين قتيل وجريح. وقبل حادثة مقتل اسماعيل وادي بيوم واحد، شهدت المدينة جريمة أكثر بشاعة، حينما اغتالت مجموعة مسلحة، "الرشيد أبوبكر" الموظف بالتأمين الصحي، وزوجته الحبلى في شهرها التاسع "أميمة بدوي" من قبل مجهولين ينشطون في الاختطاف والقتل. أغلب حوادث القتل التي وقعت بمدينة "نيالا" تخيّر منفذوها وضح النهار موعداً لتنفيذها، مثلما تم في حادثة مقتل اسماعيل وادي، والرشيد أبو بكر وزوجته الحبلى، كأنهم لا يبالون بالقانون ولا السلطات.. كما انه لم يحدث ان تمت ملاحقة القتلة فور وقوع الحادثة بغية القبض عليهم، باستثناء الاشتباك اليتيم الذي وقع بين القوات الامنية ومسلحين أطلقوا النار على رجل الادارة الأهلية ذائع الصيت علي كوشيب، وسط مدينة نيالا، يوليو من العام قبل الماضي، وقد أصيب كوشيب ونقل الى الخرطوم لتلقي العلاج، بعد مقتل سائقه وحرسه. بينما توفي الشخص الذي أطلق عليهم النار بعد أيام من إصابته في تلك الاشتباكات التي وقعت بينه والسلطات بالولاية. فيما لا تنسى الولاية الحادثة الاكثر رعباً بالنسبة لساكنيها، تلك التي وقعت عقب مقتل رجل يدعى محمد عبد الله شرارة، المكني "بدكروم"، وهو قائد مليشيا مسلحة، قبل ايام محدودة من الحادثة التي تعرض لها "كوشيب"، وقد ترتبت على مقتل "دكروم" أحداث مؤسفة بعدما اندلع قتال استخدمت فيه أسلحة متنوعة، كانت شوارع المدينة مسرحاً له. [email protected]