كان يوماً عادياً من أيام العام 1996في سجن السواقة بضاحية عمان.. فجأة دبت حركة غير عادية في أرجاء السجن.. مدير السجن كان يلهث وهو يتحدث للسجين ليث شبيلات.. اللواء الفراهيد أبلغ ليث أن الملك الحسين ينتظره بسيارته الخاصة أمام بوابة السجن.. النائب السجين يقول لسجانه "دعه ينتظر حتى أفرغ من صلاة الضحى".. بعدها يحمل جلالة الملك النائب المعارض إلى دار أمه في قلب عمان.. ويحفظ التاريخ هذا التسامح في سجلات الملك الذي رحل عن الفانية وترك هذا النموذج الطيب المعنون بالعفو عند المقدرة. أمس وفي حوار صحفي أعلن المشير البشير، رئيس الجمهورية، أن إطلاق سراح الأستاذين، فاروق أبوعيسى وأمين مكي مدني، مرهون باعتذارهما.. اشتراط الاعتذار قبل فتح صفحة جديدة يمتد ليشمل الإمام الصادق المهدي، الذي اختار مدينة نصر بالقاهرة بديلا لبيته في حي الملازمين في أم درمان.. وربما سقط سهوا من التصريح الرئاسي المعتقل فرح العقار. بداية علينا أن نستعرض تاريخنا المعاصر أن كان يحوي ثقافة الاعتذارات السياسية.. لا نجد غير مواقف قليلة من بينها الاعتذار الأشهر للأب فيليب عباس غبوش، حينما اتهم في محاولة انقلابية في عهد الرئيس نميري.. الراحل غبوش وبعد أن أصبح نميري أثراً بعد عين هون من ذلك الاعتذار معللا الأمر بتعبير (قلت يا ولد يا فيليب العب بوليتيكا).. آخر اعتذار (مدغمس) هو الذي أدى لإطلاق سراح الإمام الصادق المهدي.. النتيجة أن الإمام ترك الجمل بما حمل وهجر السودان وباتت الحكومة تسعى إليه براً وجواً. الإنقاذ نفسها والتي تسعى اليوم للحفاظ على الشرعية الدستورية لم تعتذر يوما واحدا عن أخطائها العظيمة منذ تلك الجمعة المشهودة التي مر عليها ربع قرن.. آلاف العمال شملهم الصالح العام لا لسبب غير أنهم لا يوالون الحكومة الجديدة.. فاضت المعتقلات بسجناء الرأي الذين وصلوا الحكم عبر آلية الديمقراطية.. الاشتباه بالاتجار بالعُملة الأجنبية كان جريمة تفضي إلى الإعدام.. رغم كل ذلك التاريخ لم تعتذر الإنقاذ ولا غيرها من الحكومات الوطنية. في تقديري.. ما نحتاجه في هذه اللحظة هو العفو.. الأساتذة أبو عيسى ومكي مدني والعقار، من لم يشب رأسه وينحني ظهره قد داهمه المرض.. النظر في الملف الطبي لهؤلاء المعتقلين يفتح باب العفو.. من ناحية التوقيت هنالك ما يلزم العفو.. الانتخابات على الأبواب ولا تحتاج الحكومة إلا ما يكدر صفو ذلك الموسم.. مع كل جلسة محاكمة الآن تجد المعارضة مهرجانا مجانيا لترسل خطابا سياسيا.. مئات المحامون يترافعون عن المعتقلين.. زوار أجانب يوثقون لهذه اللحظات التي تخصم من نزاهة وصدقية الانتخابات. بصراحة.. إن كان لرئيس الجمهورية، مستشارين يسعون إلى إعادة تقديمه في موسم الانتخابات فلن يجدوا غير توجيه يقضي بإطلاق الشيوخ الثلاثة.. في الإصرار على الاعتذار انتصارا للذات وفي العفو تعزيزا لقيمة التسامح ولكن أين هم المستشارون؟. التيار