يقوم موسى هلال، الزعيم القبلي زائع الصيت بدارفور، هذه الأيام بتحركات مخيفة لنظام الخرطوم.. وبالرغم من ان تحركاته قديمة، بدأت منذ مغادرته الخرطوم قبل عام ونصف، حينما كان يشغل في حكومتها منصب وزير ديوان الحكم اللامركزي. لكنها اليوم تكاد تصل الذروة، أعني ذروة التوتر بينه والحكومة، حيث لا أحد يتنبأ بكيف ستكون النهاية، لكن المؤكد أنها ستكون كارثية، على المجتمع الدارفوري طبعاً. وقد اثبتت التجارب أن النظام يتعامل مع الأزمة في دارفور بسياسة (جلداً ما جلدك جر فيهو الشوق).. وعلى مدى عقد من الزمان جر النظام اشواكاً على جلد دارفور حتى تغير وتبدل هذا الجلد، فتغيرت التركيبة المجتمعية لإقليم جميل بانسانية متسامحاً بهم.. قرى أحُرقت ومزارع أتُلفت وأنُاس هُجرت، وقبلها تدفقت دماء الأبرياء انهارا. أنُاس كانوا وجهاء بلد يقصدهم القاصي والداني، لقضاء الحاجة او طلب النصح والرأي السديد، بيوتهم مشرعة الأبواب امام الآخرين، عامرة بهم.. اضحوا اليوم مشردين في معسكرات الذل والهوان، ينتظرون معونات المنظمات والخيرين، يمدون أيديهم في انكسار للحصول على غذاءهم ودوائهم، ومن خلفهم انكسرت مجتمعات وذُلت لذلهم، لأنهم كانوا يمثلون لها رمزا للعزة والشموخ والايباء، فما تحملت رؤية حالهم الذي اضحوا عليه. المؤسف والمبكي ان كل ذلك تم بأيدي أبناء ذات الإقليم المتسامح المتصالح المتسامي فوق جراحات الذات، عاش ابناء الاقليم بمختلف قبائلهم متصالحين متواصلين متصاهرين، فاختلطت دمائهم وتوحدت ثقافتهم المتصلة بالسلام والمحبة، اؤلئك هم ابناء اقليم دار فور منذ قرون خلت. قبل ان يطل عليهم ذات زمان اغبر، ابالسة في هيئة بشر، يتلونون كما تتلون الحرباء مع ظروف الطبيعة، تتغير هيئتهم كما تتغير الشياطين لتضل بني آدم. يلبثون ثوب الدين فضيلة لتغطية تشوهاتهم الاخلاقية. زحف هؤلاء الابالسة نحو الاقليم المتسامح فاحالوا هدوءه الى اضطراب، وسلامه الى احتراب، فاصبح قتل النفس فيه أسهل من ذهاب البشير الى الحج. اغرقوا الاقليم بالسلاح، بشتى انواعه، ثم اججوا النعرات القبلية، ودفعوا القبائل لقتال بعضها البعض، بعد ان صورها لهم أن بعضهم مجرد اعداء وخونة يقفون وراء التمرد الذي قادته ابناء القبائل غير العربية في دارفور، ومن هنا نشأ اصطلاح (عرب، وزرقة)، انشأ النظام مليشات مسلحة قوامها القبائل العربية، زودها باحدث انواع الأسلحة، وانطلق بها في مهمة شيطانية، ظاهرها محاربة الحركات المسلحة، وباطنها حرب شعواء على (الزرقة) قتلت وشردت وهجرت الالاف منهم. أنظر الان الى معسكرات النزوح بدارفور، ومعسكرات اللاجئين في الدول المجاورة، ستعرف الحقيقة. وبعد ان نجحت خطتهم، ودانت لهم الارض التي كانت (حواكير) ملك للقبائل غير العربية، وقد اصبحت خراباً، وتوزع ملاكها الأحياء ما بين النزوح واللجوء، وجد النظام نفسه امام مليشات ضخمة، عدة وعتاداً، تجوب اقليم دارفور وقد انهت مهمتها للتو وبنجاح، ولا زالت في قمة الحماس، متوثبة للإنقضاض على فريسة قادمة. عندها شعر بخطورتها، فاحس بالخوف. وحتى لا يكون نفسه الفريسة المقبلة لهذه المليشات، اتخذ خطة اخرى، مرجعيتها القاعدة الثابتة (جلداً ما جلدك جُر فيهو الشوك).. فلتذهب دار فور الى الجحيم، المهم ان لا تصل الحرب الى الخرطوم، ذلك هو لسان حال النظام. سعى لإلهاء تلك المليشيات بقتال جديد.. أشعل الفتنة بين بعض القبائل قوام المليشات الحليفة فطفقت تقتل بعضها بعضاً، ثم لاحقاً حاول استيعاب بعض قادة هذه المليشيات، فاتى ببعضهم الى الخرطوم وعلى رأسهم موسى هلال، ومنحه مكتب قرب القصر الرئاسي، وزيراً بديوان الحكم اللامركزي، بينما البعض الآخر تم منحهم رتب عسكرية كبيرة بالقوات النظامية، بعد منح مليشاتهم التي يقودونها صفة القوات النظامية، وعلى رأسهم علي كوشيب، ومحمد عبد الله ضكروم (قتل في يوليو 2013 امام مكاتب جهاز الأمن بنيالا) وقد ادى مقتله الى نشوب قتال دام شهدته شوارع نيالا بين مليشياته وقوات جهاز الأمن. وبعد ايام من مقتل ضكروم تعرض "كوشيب" الى اطلاق نار داخل مدينة نيالا ادى الى اصابته ومقتل اثنين من حرسه، وكان "كوشيب" قادماً من منطقة ابو جرادل التي تستقر فيها قواته، لاداء العزاء في مقتل ضكروم. وقد اعلنت السلطات لاحقاًَ وفاة مطلق النار على "كوشيب" في ظروف غامضة دون ان تعرف الاسباب والمسببات. تلك التطورات وغيرها، جعلت صاحب المكتب الرابط بديوان الحكم اللامركزي يتململ في مقعده، فغادر موسى هلال الخرطوم الى شمال دارفور حيث منطقة "مستريحة"، استراح فيها قليلاً ريثما استجمع شتات افكاره وبلورة خططه المستقبلية. قرر الرجل ان يلبس لامة الحرب من جديد، ولكن العدو مختلفاً هذه المرة، مكث شهوراً عمل خلالها على استعادة سطوته العشائرية على مليشاته من جديد، لكن بأفق اوسع.. ادرك هلال انه غُر به من قبل حينما زُج به في قتال لا ناقة ولا جمل له ولا لأهل دارفور فيه، لكنه بات مقتنعاً ان قتاله المقبل سيكون له ولأهل دارفور فيه نوق وجمال. سعى هلال الى رتق النسج المجتمعي الذي كان سبباً رئيساً في خلخلته، وعقد مصالحات قبلية واسعة في دارفور، وفي كل مؤتمرات الصلح كان يحكي تجربته مع النظام، وكيف ان قادته في الخرطوم مجرد لوردات حرب، يكتنزون المال، ويتملكون الفلل في عواصم سياحية كدبي وماليزيا، بحسب تسجيلات صوتية لهلال نشرت على نطاق واسع. ويسرد هلال على المؤتمرون كيف ان القوم في الخرطوم اجلسوه في كرسي بلا وزارة، ولا مهام، يأتي يوماً ليأكل الفول والبلح ثم يحمل في جيبه نهاية اليوم نثرياته ويذهب. وحينما يطلب منهم منحه اي ملف يخدم به اهله، يوعدونه ثم يماطلون ويسوفون. ثم يقول بالنص "حينما وجدوا ان معدني غير قابل للشراء والإغراء بالسلطة والمال، ذهبوا الى الرئيس ويقصد نافع وعلي عثمان وقالوا له ان هلال يريد ان يلوي زراعنا". كان هلال يسرد تلك القصص على اذان القبائل التي توسط لانهاء قتالها، ليبين لهم ان عدوهم هو نظام الخرطوم وازلامه، وليس القبائل الدارفورية. ** وبعد ان جرب النظام كل مسكناته وحلوله المؤقتة، مع هلال، من لدن لقاء ام جرس مع الرئيس البشير، الى لقاء الجنينة مع غندور، حيث نثرا خلال اللقائين على مسامع هلال وعوداً كاذبة ككذب مطلقيها، انتقل هلال الى مرحلة الجد، بعد ان كان في السابق يقف في محطة المناورة. ففي آخر بياناته، يظهر فيها وقد تخلى عن اهدافه السابقة وبدأت احلامه اكثر وسعة، حينما قال ان مشكلته ليست مع والي شمال دارفور عثمان كبر، وانه لم يعد يطمح في منصب وال شمال دارفور، بل شدد على ضرورة كسب ود قبيلة البرتي القبيلة التي يتحدر منها كبر . واعلن في تحد غير مسبوق ان المناطق التي يسطر عليها محرم دخولها على اي من منسوبي الحكومة، وحذر الفرق الانتخابية ان حياة منسوبيها في خطر اذا ما حاولت الدخول الى اقليم دارفور لأجراء الانتخابات. لم يعلق نظام الخرطوم على الخطوات التصعيدية التي يقوم بها هلال مؤخراً، ولكن ثمة سيناريوهات مخيفة ربما يقدم عليها النظام، فمهماً كانت قوة هلال لن يعجز الأبالسة في ايجاد خطط مميتة لمواجهة الخطر. وبعد ان اكمل النظام الجزء الأول من سيناريو خلخلة النسيج المجتمعي بدارفور، من خلال سيناريو ضرب القبائل العربية مع الأفريقية في وقت سابق، الآن يتجه نحو المرحلة الثانية من السيناريو المميت.. مرحلة ضرب القبائل العربية بعضها ببعض. إن كان هلال افلت بمليشاته عن طاعة النظام واصبح عدواً له، فإن الأخير لا زال يمتلك مليشات ضخمة ربما لن تقل عدة وعتاداً عن مليشات هلال، تدين حتى اللحظة بالولاء له. فثمة رجل وصفه هلال نفسه بالمتهور ولكنه يمتلك كاريزما المحارب القاتل، يقود حالياً مليشيا قوامها حوالي ثمانية آلاف مقاتل، تربط على مقربة من قوات هلال الى الناحية الجنوبية. إن كان النظام فشل في استمالة هلال بالمال والسلطة، فإنه نجح بذلك كل النجاح في وضع محمد حمدان دوقلو الشهير بحميدتي تحت ابطية. فهل يستخدم النظام قوات حميدتي لضرب هلال، ليكتمل بذلك السيناريو الأخير من حريق دار فور. ثم هل تلحق لعنة دماء (الزرقة) بالقبائل العربية لتقتص من نفسها بنفسها للقبائل الأفريقية؟ [email protected]