الحس التاريخي.. هذه هي العبارة المفضلة للدكتور منصور خالد.. الكاتب والسياسي والمفكر السوداني.. ومنصور واحد من قلة من ساستنا ممن يمكن أن تطلق عليهم لقب مفكر وأنت مطمئن.. مطمئن أن عبارتك لم تذهب هباء.. ومطمئن أن هناك فكرة ما.. باستمرار.. ولأن منصور مستعصم بفكرة دائما.. فهو لم يكن من النوع الذي يرتجف أمام المواقف ومطلوباتها.. هو مع ما يراه صحيحا.. مهما كان ثمن رؤيته هذه باهظا.. الحديث عن منصور جاء عرضا.. ومقصودا لذاته أيضا.. بالنسبة لي عبارة منصور خالد.. الحس التاريخي.. أستشهد بها دائما.. وأنظر من خلالها لأفعال الرجال.. والدكتور منصور خالد حين صاغ هذه العبارة المثيرة.. وضعها في الواقع مقايسة صارمة يقيس بها الأفعال والأقوال والمواقف.. وحتى التصرفات الخاصة.. وأنا لا أفعل هنا غير الإعلان عن إعجابي بهذه العبارة.. بل وإيماني بحكمة د. منصور في صياغتها وحسن توظيفها..! وأنا مأخوذ بالعبارة وبما يجري من تطورات في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية وأعني بها عاصفة الحزم التي أطلقتها المملكة العربية السعودية عبر تحالف عشري بهدف وقف التمدد الإيراني في المنطقة.. عن لي دون تردد أن أتصل على الدكتور منصور خالد.. وهو من نعلم.. ثم هو صاحب العبارة التي كنت أنظر من خلالها لموقف السودان من تحالف عاصفة الحزم.. قلت للدكتور مباشرة: كيف تنظر لموقف السودان؟.. أجابني دون تردد: السودان لا يملك خيارا آخر.. غير خيار الانضمام لهذا التحالف.. تحولت إلى مستمع جيد.. والدكتور منصور يشرح.. بغض النظر عن مكاسب النظام من هذا الموقف.. وبعيدا عن الرؤية التي تبدو انتهازية في بعض الأحيان لجهة المنافع التي يمكن أن تعود جراء هذا الموقف.. فمن المهم أن ندرك أن الموضوع ذو بعد استراتيجي مهم.. القضية الآن ليست قضية اليمن فحسب.. بل قضية التمدد الإيراني.. والأسوأ والأخطر من ذلك هذا التمادي الإيراني والإصرار على إكمال عملية تطويق المنطقة.. إيران لم تكتف بما فعلت في لبنان.. ولم تكتف بما فعلت في سوريا.. ولم تكتف بما فعلت في العراق.. بل وبكل ما فعلت وتفعل في الخليج.. إنها كمن تمد لسانها للجميع وهي تتجه نحو باب المندب للسيطرة لا على البحر الأحمر فحسب.. بل وعلى البحر المتوسط.. وحين نتذكر أن إيران موجودة في ساحل المتوسط الشرقي أصلا فإن سعيها للالتفاف من الجنوب لا يعني غير خطتها لإغلاق دائرتها وتطويق المنطقة.. لفرض سيطرتها ومشيئتها على المنطقة بالكامل.. وينتهي منصور خالد إلى القول إن القرار السوداني بالانضمام لأي عمل هدفه قطع الطريق على هكذا مخطط هو قرار استراتيجي صائب..! لعمري ما سمعت توصيفا لهذه الأزمة.. وتحليلا لمعطياتها بهذه الدقة والإحاطة والإبانة قبل الآن.. اجتهدت ما وسعتني القدرة في نقل إفادة الدكتور منصور خالد كما سمعتها منه.. أو في معانيها على الأقل.. لأعود وأقول إن عبارة الحس التاريخي التي صاغها يوما الدكتور منصور خالد يمكن القول إنها كانت متوفرة في قرار الانضمام للتحالف الإقليمي الجديد هذا.. مما يعزز التفاؤل في إمكانية مراجعة الكثير من التوجهات على صعيد السياسة الخارجية.. ولكن تظل الحقيقة العلمية أن سياسة خارجية مستقرة تحتاج بالضرورة لسياسات داخلية أكثر استقرارا وتماسكا ونضجا لأنها تمثل في نهاية الأمر الرافعات التي تتكئ عليها السياسة الخارجية.. فهل نفعل؟ اليوم التالي