*(لا شيء أقرب من السماء، الأرض تحت أقدامنا، ونحن ندوس عليها، لكن السماء في داخلنا!..). - نيكوس كازانتزاكي- فرنسيس الصقلي. ص13 .. أقف عند حافة الهذيان.... الزمن يمر من أمامي عارياً كما ولدته القصيدة، والكلمات التي أتقنت ارتداء الحروف الأنيقة بدأت تتآكل رويداً.. رويداً. يا إلهي... كم هو رائع هذا النص الذي يتسكع فوق ضفاف ذاكرتي، كم هو رائع هذا الإيقاع الذي يقرع نوافذ الروح، كم هو فاتن هذا السرب من الفراشات الذي يطارد أصداء أغنية قديمة قبل أن يتوضأ بنيران الفناء. أيها الأصدقاء... من منكم يجرؤ على احتمال رؤية السماء وهي تذرف الدموع...؟ من منكم يستطيع أن يحصي خطوات البحر حين يرتقي قمم العذاب...؟ من منكم يستطيع أن يبتكر لغة ترفض الإذعان للسفلة والمجرمين...؟ من منكم يحتمل رؤية (القطيع السوداني) وهو يقاد إلى المسلخ دون أن يشعر برغبة في إطفاء مصابيح هذا النظام المليء بالموت والكذب والنفاق والتخاذل والكراهية. *** أقف عند حافة الهذيان.... بقايا عاصفة خرجت للتو من بين أصابعي، جدران تستند إلى كتفي، غرف شبيهة بالتوابيت تستعد هذا الصباح لاستقبال الرجال الذين يشعرون بالطمأنينة. أظن أنني الآن قادر على رؤية ظلام المدينة بوضوح. من ذا يطرق بابي في هذه الساعة المتأخرة من القهر..؟ كومة من الأحزان فوق طاولتي تستحيل إلى أحذية وجوارب للذئاب الذين يرغبون في تناول وجبة طازجة من الغبار. * * * أقف عند حافة الهذيان.... الغابة الأسمنتية المكتظة بالسيارات الفارهة، والمواخير الذائعة الصيت والبورصات والمؤتمرات، يلفها سكون رهيب. الغابة الأسمنتية التي أعرفها.. ويعرفها السماسرة والقراصنة والرجال الجوف، ما تزال نائمة على كتف الخراب. ها هي ذي عربات الشياطين تمر من أمامي دون ضجيج. الكؤوس والأنخاب والموائد العامرة تمر من أمامي. الذين يودون مناقشة القضايا المصيرية التي تتعلق بقدرتنا على احتمال المزيد من الجوع والقهر يمرون من أمامي. النساء الآثمات.. النساء المخمليات اللواتي يتقنَّ قراءة البراكين والزلازل.. الصبايا الحالمات اللواتي يرتدين القبعات الرديئة... القبور المفعمة بالديدان.. الأقزام الذين أضاعوا الطريق إلى الجلجلة يمرون من أمامي.. يا إلهي أين أنا الآن؟ * * * أقف عند حافة الهذيان. الشوارع نائمة.. الأشجار نائمة.. الأحذية نائمة.. الجراح نائمة.. تعالوا إذن نلملم حروف اللغة في طيات النص، تعالوا.. نستعد لاستقبال أبجدية الجوع عند ناصية الخوف. تعالوا.. لنبتكر هواجس وثيرة ذات أشكال مختلفة تثير فينا رغبة الكتابة.. والموت. هاهم أولاد الفقراء المشاغبون يتطايرون كالشرر من أمامي ها هي ذي الدهشة تستعد لاستقبال أباطرة القهر في فضاء القصيدة. وها أنذا وحدي عند حافة الهذيان أنتظر ما تبقى من الأصدقاء..! [email protected]