المثير للانتباه , والداعي في نفس الوقت للتساؤل , ليس موت الملازم غسان , الذي يموت أمثاله في كل يوم , ولكن تلك الطريقة المفضوحة الساذجة التي لا تستحي , ولا تتورع , ولا تتخفى في التخلص منه . لقد انتظروا طويلا منذ أن تسربت حادثة الفساد الكبرى في مكتب والي الخرطوم , ولابد أنهم أيضا قلبوا الخطط كثيرا وأبدلوها بغيرها مرات ومرات , واجتمعوا سرا وعلانية , ولم يهتدوا في النهاية كي يسكتوا صوته المليء بالأسرار والاتهامات والفضائح إلا لقتله بتلك الطريقة المكشوفة المجربة كأنهم يقولون : بالطبع قتلناه فهل عندكم من دليل , قتلناه بأيدي الأقدار , وبالطريقة التي يموت بها كل من اقترب منها !! لابد أن فيلسوفهم ومدبر خطتهم الذي أخذ الكثير من الزمن للتروي والتمهل قد لاحظ أن بعض المتنفذين ماتوا بحوادث طائرات أو سيارات من قبل , وأن هذه الأدوات المشهورة أكثرها خفاء مهما تكررت , وأكثرها اقترابا من الأقدار التي لا تسقط التكرارات واستعمال نفس الأساليب من حساباتها بحسان أن الإنسان نفسه ينسي , ويقع في نفس الحفرة مرات ومرات . لابد أن فيلسوفهم قال : أقتلوه بنفس الطريقة القديمة , فهي ليست آمنة وحسب حينما تأتي لجان البحث والتقارير , وإنما هي أيضا مضللة خاصة للعامة الذين سيقولون : " كيف يقومون بقتله بنفس الطريقة القديمة , هل هم أغبياء إلى هذه الدرجة ؟ " هذا الشك , هو أداة التضليل , هذا الوضوح هو أداة التعمية , والتل الذي يخفي وجوههم المرتجفة , وتدل هذه الطريقة على أنهم تمرسوا على المؤامرات والعمل الليلي منذ انقلابهم في أواخر الثمانينات لأنهم يعرفون أن الابتكار في عالم الجريمة يؤدي حتما ولو بعد حين إلى كشفها وإزاحة الستائر عن تفاصيلها . يمكن أن تصنف حوادث قتل المتنفذين والموالين بحوادث السيارات بأنها جرائم قتل متسلسلة لأن المجرم يستعمل طريقة واحدة , بأسلوب واحد متكرر , وبتوقيع يشير إليه في كل مرة . إنه الذكاء الاجتماعي الذي يميز المجرمين ( السيكوباتيين ) الذين يظهرون اللطف والمودة وهم في حقيقتهم معادون للمجتمع ويفتقدون للتعاطف مع الضعفاء والمحتاجين والذين لا سند لهم , فكل قاتل متسلسل لابد أن يترك في مكان الجريمة وفي جسد المقتول توقيعا صارخا يشير إليه , ولكن المجرم في حالة الملازم غسان معروف , وله سوابق قتل محصورة ومحددة ومدروسة , ولكنه يعتمد على التكرار في التخفي , ونفي التهمة عنه . هل يتلذذ هذا القاتل الشرس الثري بالنشر في الواتساب والوسائط الاجتماعية بهذه الجريمة , وبعدم قدرة القضاء الوصول إليه مع أن كل الأصابع تشير إليه وتحدد مكانه وتبعث جرائمه ؟ إذا كان القدر لا عقل له , ولا زمن , ولا مبرر , وهو يملك كل الأسلحة , وكل الحيل , فإن موت الملازم غسان ( يرحمه الله ) , وهو صندوق أسود لجرائم حكومية , وربما لمفاسد أسرية , هو آخر ما يمكن اعتباره قدرا مقدورا . وذلك لأنه . أ- شارك في جرائم فساد ضخمة تورطت فيها أعلى مستويات الدولة من وراء ستار . ب- الذين شاركوا معه في تلك المفاسد من طبقات اجتماعية مشرئبة الأعناق , وأصحاب ذكاء متوسط . مما يدفعهم للحلول القاسية حفاظا على مكتسباتهم ت- قتل غسان بطريقة تشير إلى القاتل الحقيقي الذي يوقع دائما في مكان الجريمة بأداته المعروفة المجربة ثم يتوارى خلف السلطة التي تحميه , وتلغي ما يتهم به . ث- هناك محاولة جرت من قبل من أجل تسميمه , وربما هناك محاولات أخرى أو مساومات جرت مع غسان نفسه فتكتم عليها . ج- الفترة الزمنية الطويلة التي سيعيشها بعد نهاية النظام مما لا يصلح معها محاولات تسفيره أو إسكاته بشتى المغريات لشاب سيتعرض لتحولات كثيرة في مقبل الأيام والسنوات مما ستتيح له أن يفشي كل سر ضاحكا ومسرورا في يوم من الأيام . ح- الملازم غسان نفسه الذي تذوق حلاوة النعمة , وجنة الفساد في الأرض , وهو يعلم أن أولئك المتنفذين يكنزون المليارات , وسبائك الذهب , ويبنون القصور , فلربما سولت له نفسه خاصة بعد فوزهم في الانتخابات بأن يبتزهم ويهددهم إن لم يعطوه المزيد بعد أن خافوا منه حينما هددوه بأن لا يفشي سرا , أو يذكر اسما من الأسماء الكبيرة . وبهذه الجريمة المفضوحة , التي لا مبرر لها , لوجود البدائل في عالم المنحلين والفاسدين , يعلن النظام بأن نهايته اقتربت , وأن زمان المحاكمات والمساءلات القضائية قد حان , فهيا لنتلف الأدلة والملفات , ولنزيح القرائن والشهود . وإذا كان الأمر كذلك فلن يكون الملازم غسان هو الأخير في قائمة المطلوبين , بل هناك المزيد والمزيد , وربما سمعنا بعد قليل اغتيالات داخل أسر المتنفذين , وماسكي السيف أنفسهم. ويدل موت الملازم غسان المفاجئ والمتوقع في نفس الوقت على أن قضية فساد مكتب الوالي التي سكت عنها الإعلام , وتناستها الأقلام , مازالت تتفجر بين أجنحة الحزب الحاكم أو أعضائه إلى أقصى مدى , وما موته إلا رسالة مفخخة لمن يهمه الأمر .. [email protected]