كتب الإمام السيد الصادق المهدي رسالة شديدة التهذيب سبيكة المنطق إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باسم شعب الأنصار السوداني وحزب الأمة يلتمس منه توظيف سلطاته الدستورية لرفع أحكام الإعدام التي صدرت بحق قادة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم الرئيس السابق المخلوع السيد محمد مرسي. وهي رسالة عذبة يفتدي فيها الإمام جماعة ما في مصر هو ضحية مرجعيتها في السودان كما قال. وفي هذا علو سياسي يترحل من مغبة الثأرية إلى بصائر السياسة. وقد هداه إلى هذا النبل الروحي تعاطيه المخضرم للسياسة. فقد بان له أن القتل للسياسة هو قتل للسياسة نفسها. حمّدت للإمام الصدوع بعبارة النصح لرئيس مصر كمسلم وسوداني. فشأن مصر شأننا كما لا لأحد غيرنا. والإمام ناصح صدّيق عندنا بخلاف الحركة الإسلامية السودانية التي احتجت على أحكام مصر القاسية بصورة مرائية. فعابت صمت الليبراليين واليساريين على هذه الأحكام ببراءة نَكِدة وكأنها لم تجرب مثل هذه الأحكام وأدهى بحق الليبراليين واليساريين لترويعهم لإصماتهم. وكان حرياً بالحركة أن ترى نفسها في مرآة دولة مصر الحاضرة، وأن تتواضع في عبارتها، وأن تصغي للنفس اللوامة. وخروج الإمام بهذا النصح يلطف مفعول حجة مقيمة لمعارضي نظام الإنقاذ في الحركات المسلحة في الهامش السوداني. فقد ساءهم دائماً احتجاج الصفوة الموصوفة بالعربية الإسلامية على فظائع تقع لعرب مثل الفلسطينيين بينما تصمت، في قولهم، حيال ما يجرى من سفك لدماء لأهل الهامش "الأفارقة" من دولة الإنقاذ المنسوبة للحركة الإسلامية. وهذه الحجة، مهما كان من وجاهتها، تَبطُل في حالة الإمام ذي السابقة في إدانة نظام الإنقاذ لتوحشه في أرياف السودان وغير أريافه. وآخر أخباره توقيعه وثيقة "نداء السودان" مع الحركات المسلحة. وتضمنت مطلباً دقيقاً بوقف الحرب في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. فالإمام ليس من يقعقع له بالتطفيف. معقود على مبادرة الإمام الناصحة أن تخرجنا من الإنكفاء على مسألتنا السودانية وكأنها تكسب من اعتزال العالم من حولنا. وهي استراتيجية مغرقة في المحلية تحجب عنا فعل العالم فينا وبنا. فتجربتنا المعاصرة مع مصر أرتنا كيف صرنا الأخسرين متى تعطلت الديمقراطية في أي من مصر والسودان أو في كليهما. فما تزال حلايب واتفاقية مياه النيل لعام 1959 غصصاً سودانية معاصرة لنظم أستدبرت الديمقراطية في البلدين. إن النهي عن الاحتجاج على سوءات تقع في محيطنا الإستراتيجي لأن "الفينا مكفينا" خطأ سياسي بين. فليس مطلوباً منا بإزاء التوحش السياسي في محيطنا وغير محيطنا سوى الاحتجاج لأن هذا غاية ما نبلغه. وهذا خلاف الموقف المطلوب منا حيال التوحش في بلدنا. فلن يجدينا الاحتجاج عليه فتيلا إن لم نصحب ذلك بشغل فكري وسياسي مر يستأصل شافته فتسعد البلاد. وددت لو تداعينا في السودان جميعاً نعزز كلمة الإمام الناصحة لقادة مصر. فهي الحب الصعب الواجب لمصر في مثل هذا المنعطف. وقد تأخرنا كثيراً عنه بذرائع لا قيمة لها. فتبنى كثير من المعارضين خطة الدولة المصرية في تصفية الأخوان المسلمين على غرار: "وما رميت ولكن الله رمى". وهذه خطة عجز عواقبها وخيمة. فلن يترقى حسنا بالديمقراطية واستدامتها إذا تحللنا من الدفاع عنها في توقيتنا الخاص وحيال جماعات لا نطيقها. يكفي أن مصادرة الديمقراطية في مصر شملت حركة 6 إبريل التي لا أعتقد أن للمعارضين عندنا مأخذ عليها. آمل من زملائي اليساريين بالذات أن يتوقفوا ملياً عند نصح الإمام لقادة مصر. فعلينا كفارة مستحقة للديمقراطية في مصر. فما زلت أذكر موقفي من موكب نظمناه في 1966 في ساحة إبى جنزير بالخرطوم نهلل لمقتل المثقف الإسلامي سيد قطب دعماً للنظام الناصري التقدمي. ما استعدت ذلك المشهد حتى أرتعدت فرائصي خجلاً. فلدعم النظم، حتى التقدمية منها، حدود لا تقتل النفس فيها إلا بالنفس. وأتمنى على زملائي في شباب اليسار إلا يكرروا هذه العيب في الذات الديمقراطية بالصمت حيال مقتلة الإسلاميين في مصر. فسيأتي اليوم الذي ستندى ضمائرهم خجلاً. بل سيرونه في أنفسهم. لقد ميّز الإمام لنا كسودانيين صوتاً عاطفاً شفيفاً دمثاً مستحقاً ل"شمال الوادي" يجنبه الغلو والترخص في القتل، ويحفظ مصر فانوسنا في الظلمات. فلنتنادى لتعزيزه بورك فيه. [email protected]