كانت ننضا فان روزماين بالمستشفى عندما شاهدت فيديو غرق القارب في الحدود الإيطالية. ننضا من مدينة أوترخت وسط هولندا درست المحاسبة وتعمل منذ أربع سنوات موظفة بمكتب للضرائب يتبع لبلدية المدينة. من فصيلة النساء الجميلات بالمقاييس والمقاسات الكونية كلها. في الصيف السابق للصيف الماضي ألتقيتها صدفة في المحطة الرئيسة للقطارات في قلب المدينة ثم توالت لقاءاتنا حتى بلغنا كل معاني الصداقة. كان هناك سبباً خارجياً للتعارف الأول!. كانت ننضا تود أن تعمل شعرها "راستا" وهو أمر مهم بالنسبة لها، فأستفتتني عما إذا كنت أعرف شخصاً ما يستطيع مساعدتها فيما تود أن تفعل بشعرها الأشقر الطويل. كنت في الحقيقة أعرف إمرأة ما إصولها من الدومنيكان إسمها "لاتيفا". لاتيفا في حوالي الستين من العمر عملت عشرين سنة عاهرة محترفة في "بترينات" أمستردام ثم تحولت إلى خادمة نظافة بالمنازل في السوق الأسود وكنت ضمن الناس الذين تخدمهم لاتيفا بين الفينة والأخرى. عندما أخبرتني لاتيفا لأول مرة أنها كانت عاهرة محترفة لازمني فضول لا يمكن مقاومته أن أسألها عن طبيعة عملها كبائعة هوى كوني أتصوره مثل كل الناس عملاً شاقاً وقاسياً كما هو من أتفه الأعمال وأحقرها على وجه الأرض. الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للاتيفا. قالت ما هو ضد كل خيالاتي المسبقة: أنها فخورة بمهنتها السابقة وأنها ربت ثلاثة من بناتها وولدها الوحيد من تلك المهنة. وتعتبر نفسها بكل يقين أنها إنسان شريف وعالي الكرامة وأنها لم تسرق ولم تقتل ولم تأذي أياً من البشر طوال حياتها كما أنها أمتعت مئات الرجال المحتاجين للمتعة وبمحض إرادتهم، ثم ضحكت لاتيفا بشهية حينما أقرت أن: "ثلاث أرباعهم خائن لشريكته"!. سألتها: "هل يعملن بناتك في مثل مهنتك السابقة".. "لا". "هل تسمحي لهن بإمتهان تلك المهنة" .. "الأفضل لهن إمتهان أعمال تدر دخلاً أفضل وبلا مشاكل". لاتيفا خادمة طيبة بماضي يراه الناس بشعاً لكنها لا تخجل أبداً من ماضيها. بل تتعامل مع ماضيها وكأنها كانت موظفة كبيرة في أحد البنوك المرموقة!. راستا ننضا لافتة بشدة للنظر، شعر أشقر ذهبي يتبعثر في فوضى لا يمكن إنتظامها. كانت سعيدة في البدء بكونها راستا غير أنها سرعان ما ملت الراستا ورجعت من جديد تريح شعرها على كتفيها كما كان. في الحقيقة كانت لاتيفا على حق حينما أقرت بأن طبيعة خصلات شعر ننضا السميكة غير مناسبة للراستا!. لم يمضي كثير من الوقت حتى توطدت العلائق بيني وننضا لكن دون إسراف في العواطف أو الجسد. ننضا كانت غريبة الأطوار ولو أنها لا تخرج عن وقارها إلا نادرا. كانت علاقتنا أشبه بسمت المراهقة: حذرة، تجريبية، غير مستقرة ومشوبة بالخجل!. في الحقيقة لا يستطيع أن يقول أحدهم أني وننضا على علاقة من أي نوع!. كان شيئاً أشبه بالفراغ الذي تعبأه الحوجة المتبادلة بين الأضداد : رجل يعشق الحياة وإمرأة تعشق الموت!. في إحدى أيام الصيف الماضي فاجأتني ننضا بجملة لم أتوقعها أبداً من كائن في بهائها الظاهري: "عندي رغبة شديدة في الإنتحار"!. دهشت قليلاً، لم أستوعب ما قالته بالكامل، ضحكت إذ ظننتها تمزح: "أنت مجنونة يا ننضا، دعينا من هذا الجنون، هل نذهب اليوم إلى المطعم اليوناني؟"، "لا ليس لدي مزاج، نستطيع أن نحضر وجبتنا في البيت هذا المساء". غير أن ننضا ظلت تكرر بإستمرار رغبتها في الإنتحار: "أود أن أرحل، هذه الحياة مملة، لا أشعر بشيء جدي أو ممتع يستحق العيش من أجله، جربت كل شيء وفعلت كل شيء ولم أجد شيئاً واحداً يدعوني للبقاء هنا". عندها فقط أصبحت على قناعة تامة أن ننضا جادة فيما تقول وأنها ربما نفذت قرارها في أي لحظة، حاولت جهدي نقض أفكارها الكارهة للحياة. لم يكن بالمستطاع. كانت ننضا على قناعة أصيلة بالرحيل. في إحدى الصباحات وبينما كنت في الحمام أجهز نفسي لإستئناف اليوم الجديد كانت ننضا قد نفذت قرارها بالفعل عبر تعاطي أربعين حبة منومة دفعة واحدة. غير أن إتصالي على الإسعاف في الوقت المناسب هو ما أفشل خطتها في الرحيل. عندما كنت أنظر إليها عبر النافذة في غرفة الإنعاش بمستشفى آنتونيوس بمدينة أوتريخت كنت أفكر في ماذا ستكون ردة فعل ننضا في إحباطي لرغبتها الأكيدة في الرحيل عندما تفيق من غيبوبتها، أليس هو إعتداء على حريتها الشخصية؟!. هل ستسامحنى ننضا على هذه الجريمة التي أرتكبتها في حقها أم هل تشكرني على أنني أنقذت حياتها، لكنها هي ذاتها لا تود الحياة، إنها ترى متعة الحياة في الموت!. أفكار كثيرة متناقضة تقاطعت في مخيلتي في لحظة واحدة. في مساء اليوم التالي أخذوها إلى غرفة أخرى وعندها فقط سمحوا لي بالدخول عليها. كانت ننضا الجميلة هامدة وشاحبة وغائرة العينين غير أنها تستطيع الكلام ولو بتعثر كما أن مقدرتها على الرؤية لم تكن في منتهى السوء. لم أكن أعرف ماذا أفعل!. فكرت وقدرت وأتصلت بطبيب نفسي أعرفه منذ مدة من الزمن فأرسل لي في الحال عبر التلفون فيديو على اليوتوب يصور غرق قارب من اللاجئين الهاربين من الفقر والحروب والطغيان في بلدانهم الأفريقية والشرق أوسطية. كان الحادث في خضم البحر الأبيض المتوسط قبالة الحدود الإيطالية. الفيديو يصور اللحظات الأخيرة لغرق خمسمائة شخص بينهم أطفال رضع وأمهات وشبان وفتيات صغار ورجال مسنين. كان مشهداً بشعاً ومرعباً منتهى الرعب وفي منتهى السوء يبكي العيون ويدمي القلوب ولو صنعت من الحجارة. كانت الصرخات تشق عنان السماء والوجوه مذعورة في مواجهة الموت الإجباري الرهيب، كانت الأنفس الراغبة في الحياة والمتطلعة إلى المستقبل المشرق تغرق في المحيط قهراً وتختفي تحت الماء طعاماً للحيتان الجائعة. غير أن هناك فتاة واحدة في بهاء ننضا كانت تقاوم الغرق لم تستسلم أبداً للموت كان جسدها كله يرتعد من الخوف قبالة الموت الرهيب لكنها كانت صامتة إلا من بعض الأنين وصامدة إلا من تلك الرعدة تمسكت بخشبة كبيرة جلبها إليها القدر حتى تم إنقاذها بواسطة خفر السواحل الإيطالي. عند هذه اللحظة وحدها من مشاهد الفيديو الرهيبة رأيت ننضا تبكي وهي تقول: "لن أحاول مرة ثانية، أنا آسفة". محمد جمال .. "قصة قصيرة" [email protected]