*(تلف الأكذوبة حول العالم دورة كاملة، قبل أن تنتهي الحقيقة من ارتداء سروالها..). - مارك توين- .. توقّفت عند قول أحدهم (لو خيّر العرب بين دولة علمانية وأخرى دينيّة, لاختاروا الدينيّة وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية). لست متأكّدا من صحّة ودقّة ومصدر هذه العبارة التي يتبادلها (نشطاء) المواقع الاجتماعيّة بحماسة وسخرية فائضة بلغت درجة جلد الذات, لكنّي أجد فيها الكثير من الحقيقة الموجعة, وإن كنت أحبّذ مصطلح (الدولة المدنيّة) بدل (العلمانيّة) التي باتت تثير الغبار والجعجعة فأنستنا الطحن والطحين الذي جئنا لأجله. تكشف هذه المقولة الماكرة مدى تلك الازدواجيّة المقيتة التي يعيشها الإنسان العربي, وعلى الأخصّ من يحسب على الفئة التنويريّة المتعلّمة.. كي لا نقول (الأنتلجنسيا) أو (النخبة) أو (البرجوازيّة الصغيرة) فنرتطم مرّة أخرى في متاهة القبض على المصطلحات وتحديد اتجاهاتها كذاك الذي شتم أحدهم فاعترض الأخير على (نصّ الشتيمة) ودقّتها اللغويّة. هكذا تضيق المسافة أو تتسع بين الظاهر والباطن, بين أضلع مثلّث الفكرة واللسان والفعل بقدر مصداقيّة أو زيف الوعّاظ وعشّاق المنابر. إنّ الأمر يشبه (أبناء الحارة الواحدة) من أولئك الذين ينصحون (بنات الجيران) بضرورة التحرّر والسفور, ويلزمون (حريم الدار) بالبرقع والنقاب ولزوم البيت! ترى, ماذا يحصل في الحالتين؟ أي إن التزمت كلّ أنثى في الأولى بنصيحة شقيقها وأسقطت ما يقوله ابن الجيران في جدوى التحرّر؟ وماذا في المقابل إذا عملت كل فتاة في الحالة الثانية بنصيحة (ابن الجيران) وكسّرت كل القيود وانطلقت للحياة كما يشتهي أن يراها؟ على فرضيّة أنّ كل (ابن جيران) له شقيقة في البيت.. ألا تصبح لدينا عندئذ لوحة كاريكاتيرية عجيبة، تتألّف من قسمين.. أي وجهين لعملة واحدة اسمها (حارتنا الواحدة كما نفكّر ونشتهي)! اسمحوا لي أن أزيدكم من الشعر بيتا, ماذا نسمّي ما يفعله أولئك الذين يغادرون مضاربهم في صحارى النفط ومدن الملح نحو الغرب الكافر في عطل الراحة والاستجمام؟ أقسم إنّي شاهدتهم بأمّ عيني يخرجون من عقالهم بهستيريا مخيفة, يمعنون ويبالغون في المجون والسفور بشكل يستغربه أهل البلاد التي يقصدونها.. ثمّ يعودون إلى عباءاتهم وقوقعاتهم كمن أصابه مسّ من الشيطان. هم يختارون الدولة الطائفية والتكفيريّة للفقراء والبسطاء والمغفّلين، ويذهبون للعيش في الدولة العلمانيّة, لا لقناعة في جدوى إبعاد الدين وتنزيهه عن المصالح السياسية والفئويّة, بل للتمتّع بتلك (الحظوة) التي تمنحها الدولة المدنيّة في حرية السلوك والمعتقد, إنهم يفعلون مثل الكثير من المثقفين الانتهازيين في العالم العربي, أي أولئك الذين يتمتّعون بشرف (المعارضة) وامتيازات (السلطة). هم لا ينظرون أبعد من أنوفهم المغمّسة في الوحل ويظنّون أنّ أنهار المغريات والحوريات هي أقصى وأجمل ما تقدّمه الدولة المدنيّة التي جعلت في الأصل لحماية العقائد وضرورة التعايش وضمان الحياة الكريمة للأجيال المقبلة. هم يعملون وفق (حرام عليكم, حلال علينا).. انظروا إلى بذخ العائلات المالكة في (بلاد الكفّار) وإلى بؤس الرعيّة في البلاد التي يحكمونها بالدجل والكذب والرياء. متى يعلمون أنّ الحيلة في ترك الحيل. [email protected]