*(يمكن الاستنتاج أنه حتى في الثقافة التي تفصل نفسها عن ماضيها وتتنكر له، لا يستطيع الناس أن يعيشوا على عبادة الحقائق وحدها..!). - جورج لوكاش – 1885 - 1971 .. لقد أجاد الفلاسفة في عرض أفكارهم بلغة الأدب، وامتلأت اللغة الأدبية بالسر الفلسفي فكان كل منهما مدداً للآخر، لقد حصل هذا بعد ان ترافقت الفنون الأدبية مع النظريات الفلسفية، وبعد أن اورقت الفلسفة بندى الأدب وبأريج عطره ووقع أنغامه، وتعمق الأدب بغوص الفلسفة، لأنه بسلاسة الأسلوب يوصل الفكرة، والفكرة بعمقها تضيء الكيان الأدبي. ولولا عمق الأفكار عند (أفلاطون) لما وصلت فلسفته في الجمهورية والحوار إلي روح المتلقي، ولهذا كان اليوناني مأخوذاً بالدهشة من إشارات (الالياذة والإوديسة)، لأنها كانت موضع التأمل والاستغراب ثم أصبحت موضع المحاكاة، فنشأت فكرة محاكاة الفن عند (أفلاطون) فاعتبر مثلاً: الشاعر غير قادر على منح الصورة الشعرية، الدفق الحسي والتوهج الذي تمنحه الحياة للشاعر في ان يمنحه هو للقصيدة، فالشاعر لا يبلغ بصوره الوصفية صورة الموصوف، وعندما تلقى (أرسطو)، هذه الأفكار أسس عليها وفندها معاً، فاعتبر الفن الأدبي ينهض على اساسيات المحاكاة، ولكنه يختلف عنها، فالمسرحية التي تتشكل من تأثير حدث أكبر تأثيراً من الحدث نفسه، ومختلفة عنه أيضاً، لأن الحدث مجرد مادة القصيدة أو القصة أو المسرحية، فالحدث بالنسبة إليها كالبذرة التي أصبحت الشجرة، ومن نظرة أخرى فان القصيدة عن البحر عمل أضافي لأن البحر في القصيدة غير البحر في المحيط، وميدان القتال في المسرحية - الرواية - غير اشتباك، السلاح في مكان المعركة، لأن العمل الأدبي إعادة خلق لذلك العمل عن رؤية جديدة وعن وهج خلق إنساني يختلف عن مخلوقات الطبيعة، ولهذا اختلفت الأعمال الفنية والأدبية عن مستقياتها الحياتية ربما أجمل وأروع، ولهذا نرى أختلف (أرسطو) مع (أفلاطون)، وكذلك كل الاختلافات في الآراء والأفكار، هي تعمق وتوطد بين (هجيل) و (بيكون) مثلاً أو بين (سوفلكيس) و (دانتي)، هذا كان حول صلة الفلسفة بالأدب، وصلة الأدب بالفلسفة، رغم اختلافهما، وهذا التواصل -الاختلاف- نجده بشكل أوسع وأعمق في حقول الفكر والآداب مع بعضهما أكثر مما هي فيه مع الفلسفة، لذا أقول: ان الاختلاف لا يعني التضاد في التجارب والمواقف والأفكار، بل هو توطيد وتعميق السابق باللاحق -الجديد بالقديم- فالجديد لا يلغي القديم، وكل الاتجاهات النقدية القديمة والحديثة مع الأفكار والآراء المستجدة والعتيقة المتمثلة في معطيات الوعي والمعرفة في التكوين الأساس للرؤى النقدية الجديدة، يضاف إليها عطاء الثقافة العربية القديمة لأن من أكبر مهمات العصر النفاذ إلي ثقافة الأباء والأجداد، وليس مهما ان نتفق أو لا نتفق وإنما المهم ان نحافظ على أصالة الجوهر لأنه إضاءة التواصل فهذا (المتنبي) لا تزيده رؤية العصر إلا اقتربا منا، فكان أكثر الشعراء وعياً لعصره وللمستقبل، ولهذا بقي يثير فينا شجناً خاصاً ورؤى جديدة لعصرنا لأنه عبر عن عصرنا قبل أكثر من ألف عام، كأنه بيننا، ولا تزيدنا الرؤية الحديثة بعد كل قراءة (للمتنبي) إلا إضاءة لنا، فكانت استفادتنا من شعره أكثر مما استفاد (سيف الدولة وكافور الإخشيدي)، وهذا أيضاً أعني به التواصل، الأثر المؤثر في حياتنا وثقافتنا لأن الاختلاف قد يكون آصرة تعزز الرأي وترفده بالمفيد، فالاختلاف في اتجاهات الأدب مهما بلغ زمنها، أصبح ضرورياً، لأن كل رأى يكون مدداً للآخر، يعمقه ويكمله وكل فكرة جديدة هي إضافة لأختها أو أمها للوصول إلي ذروة الكمال المعرفي، وكلما اختلف الفكر ومديات الإبداع، كلما تواصلت روافده لتلتقي في مصب واحد، هو المعرفة والإبداع. [email protected]