الاتفاق السوداني الروسي بشأن التعدين عن الذهب الذي تم الإعلان عنه مؤخراً لم يكن وليد اللحظة . ولكنه جاء خلاصة لقناعات فرضتها الظروف الدولية على كلا البلدين ؛ مما أسفر عن التوصل إلى إتفاق على هذا النمط من تبادل للمنافع .. وحيث يقضي أهم بنود الإتفاق أن تأخذ روسيا الذهب السوداني مقابل مد السودان بسلعة القمح ومنتجاته من الدقيق. يستفيد الجانب الروسي مباشرة بالحصول على معدن إستراتيجي نفيس ، دون أن يدفع عملات حرة مقابله . وكذلك تمضي روسيا بخطى حثيثة في محاولتها إستعادة بعض الذي فقدته من نفوذ وزخم سياسي في القارة الأفريقية .. ولكن الجديد أنها تأتي هذه المرة وهي ترتدي ثوب إقتصادي رأسمالي ؛ مغاير لذلك المظهر العقائدي الذي دخل به الكرملين أبان الحقبة الشيوعية. وأما نظام المؤتمر الوطني . فإن أهم ما يجنيه من هذا الإتفاق هو كسر حلقة الحصار الدولي ، الذي تفرضه عليه الولاياتالمتحدة وحلفائها اللاعبين الأساسيين في الإتحاد الأوروبي. كذلك يكون نظام المؤتمر الحاكم قد أدرك العِبْرة ، وإستفاد من دروس تعلمها خلال الفترة القصيرة الماضية ؛ عندما أقدمت بعض المصارف في المنطقة العربية على إستحداث قيود معرقلة لتحويلات المصارف السودانية . وكادت تعصف بقدرة الحكومة على تلبية حاجات البلاد الماسة. الشيء الإيجابي الأكثر أهمية من جدوى هذا الإتفاق ؛ هو أنه يأتي بحلول فورية سريعة على المدى المتوسط لجهة تأمين حاجة البلاد من دقيق القمح؛ الذي يعتبر اليوم الأساس والقاعدة التي يعتمد عليها الشعب في غذائه ، بعد أن أدت النزاعات الداخلية المسلحة إلى هجرة الأهالي مزارعهم ، والنزوح عن قراهم إلأى أطراف المدن الكبيرة .. وما ترتب على لك من تغيير لنمط غذائه الذي كان يقوم في السابق على (الإكتفاء الذاتي) من الدخن والذرة الرفيعة المنتجة محليا . وبوصفها الأسهل والأرخص من حيث تكلفة الإنتاج ومكافحة الآفات التي يعجز القمح عن مقاومتها ؛ وتؤدي إلى عدم الإستقرار في معدلات إنتاجه الزراعي محلياً. كذلك هجرت ربات البيوت في الوسط والشمال الكثير من أنشطة الطبخ المنزلية . وتزايد الإعتماد على شراء "الكسرة" الجاهزة وهو الأمر الذي رفع من أسعارها إلى أرقام فلكية . فأصبحت طعام الأغنياء بعد أن كانت ملاذ الفقراء .. وعلى ذلك الإتجاه كان لابد أن تتغير أنواع الطبخات . فأصبح الإعتماد أكثر على طبخ الأصناف التي تتلاءم مع رغيف الخبز .. هكذا تزايد الإعتماد بشكل مضطرد على دقيق القمح .... والمفارقة الكارثية التي لازمت هذا التزايد في إستهلاكه هو فشل زراعته محليا على النحو الذي كان متوقعا لأسباب تتعلق بقلة خبرة المزارعين في مشروع الجزيرة به . وكذلك لحساسية معالجته في كافة مراحل الزراعة ومكافحة الآفات والحصاد والتخزين ، عند مقارنته بمنتجات زراعية "سودانية مواطنة" كالدخن والذرة الرفيعة. مشكلتنا أننا لا نتعلم أبداً من تجاربنا السابقة .... فقد يندهش البعض من أبناء اليوم اليوم حين يدرك أن "تاريخ الغذاء" السوداني ؛ كان قد شهد في منتصف حقبة الستينات من القرن الماضي ندرة وشح في صنف "المايو العسلية" من حبوب الذرة الرفيعة ؛ بعد أن هجر أهل العاصمة والمدن تناول الكسرة والعصيدة و بَنِي كَربُلْ من صنف الفتريتة الخشنة. وهو ما دفع حكومات أكتوبر للإستعانة آنذاك بالمعونة الأمريكية ؛ التي إتضح لاحقاً أنها أرسلت لنا هي الأخرى ذرة رفيعة رديئة الصنف يقدمونها في بلادهم للخيول . وبعد مجيء الرئيس الأسبق جعفر نميري للسلطة بعد إنقلاب 25 مايو العسكري ، وإعلانه سياسة التأميم والمصادرة البليدة عانت البلاد من شح مزمن في كافة أصناف منتجات القمح . وظل الإنسان السوداني يعاني من ندرة رغيف الخبز طوال أل 16 عاماً المتتالية من فنرة حكمه. على أية حال فقد تعقدت المشاكل والحاجات اليوم عنها بالأمس أيام عبود ومايو ، وما سبقها وتلاها من ربيع عهود ديمقراطية ..... لكن ... وفي كافة الظروف والأحوال فنحن أبناء اليوم .... واليوم يأتي توفير رغيف الخبز الخطوة الأكثر إلحاحاً لتأمين قدر لا يستهان به من الأمن . وضمان عدم نزول المواطن العادي إلى الشارع ، وإحداث إضطرابات أو المطالبة بإسقاط النظام. إمدادات القمح أو دقيق القمح الروسية ستكون أرخص سعراً ، وأقل تكلفة بكثير مما هي عليه الآن .. فالخزينة السودانية تستنزف الكثير من الأموال مقابل شراء شحنات القمح بسبب قيود المقاطعة الإقتصادية ، وتعقيدات التحويلات المالية. وإضطرارها للشراء "من البحر" بأسعار أعلى بكثير من أسعار البورصات العالمية.... وفي بعض الأحيان تتعرض مثل هذه السفن إلى القرصنة أو المصادرة تحت طائلة التهريب وهي في عرض البحار قبل دخولها الميناء . فينتج عن ذلك أزمات متكررة من الشح والندرة الفجائية. ولأنها رخيصة فسيظل شبح الفساد المزمن الماثل يطل برأسه ؛ بوصفه المهدد والمجهض لكافة الجهود ، والمحاولات الجادة من جانب بعض الحادبين على مصلحة البلاد .. والمتوقع (في ظل الفساد) أن يعمل البعض على تهريب دقيق القمح الروسي الرخيص من السودان إلى مصر وبعض الدول الأفريقية الأخرى .... وبذلك تبقى الساقية دائرة. الذي يتتبع سنوات النظام السياسي القائم منذ عام عام 1989م وحتى تاريخه بمختلف مسمياته وتحالفاته يشهد له بأن محظوظ .. وأن الكثير من الخطوط قد تقاطعت لتمد له في عمره .. ولكن المؤسف أن الفساد المالي بوجه خاص وظاهرة المبالغة في التكسب غير المشروع من الوظيفة العامة ، وإدمان الثراء الحرام ؛ وإستسهال سرقة المال العام وحتى مال الله ورسوله قد أصبحت واجهة وعلامة ... وعاهة مستديمة ملازمة له. رفع الدعم عن دقيق الخبز وسلعة القمح لن يكفي وحده لمحاربة التهريب إلى الدول المجاورة..... لماذا؟ في مصر وأثيوبيا على سبيل المثال ؛ تدعم الدولة دقيق الخبز . فتقوم بتوزيح حصص محددة منه إلى المخابز عبر وزارة التموين .. ولكنها لا تدعم الدقيق المخصص لإنتاج الحلويات والخبائز والمعجنات بأنواعها . وأحيانا كثيرة قد يكون سعر الدقيق المهرب من السودان إلى هذه الدول أقل سعراً من مثيله (غير المدعوم) في أسواقها. واليوم وبعد تعبيد الطرق البرية ، وتسيير شاحنات ذات حمولات ضخمة . فإن التهريب قد فتحت أبوابه على مصراعيها .... والتساؤل الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا تصعب الإجابة عليه .. ولكن يبدو أننا وفي ظل الفساد وضعف المتابعة والرقابة والمحاسبة سنظل نمضي في طريق لا نهاية له من تقديم أرضنا وثرواتنا القومية للجيران والغير ببلاش وبلاهة .... وسفاهة قد تستدعي يوماً ما الحجر. مصعب المشرّف [email protected]