أقرب إلى القلب: (1) ترى هل في تقييم الإدارة الأمريكية بجماع مؤسساتها للعلاقات الايرانية السودانية ما يعزز مواقفها المتوجّسة تجاه السودان ...؟ سؤال يجب أن يطرح إزاء التطورات الايجابية التي وقعت مؤخراً في علاقات الولاياتالمتحدةالأمريكية مع دولتين نرى من موقع المراقب، أن العداء الأمريكي قد استدام تجاههما لعقود طويلة ولكنه الآن إلى انطواء. الدولتان هما: كوباوإيران الإسلامية. غير أن مقالاً مختصراً قد لا يتيح لي تناول الموضوع من مختلف زواياه، أو الولوج إلى أعماقه واستجلاء خفاياه، بما يحيلنا إلى النتائج والاستخلاصات النهائية. لا أخفي أني كنت في وقت ما من بين أكثر المطلعين على أحوال العلاقات السودانية الإيرانية، خاصة في سنوات التسعينات من القرن الماضي. الذي أوجزه في فاتحة هذا المقال هو رؤوس موضوعات لا أكثر. (2) أبدأ معك مراجعة العلاقات الأمريكيةالإيرانية في سنواتها الأخيرة، لأهميتها وتشابكها كخلفية لازمت العلاقات السودانية الأمريكية المتردية خلال العقدين الأخيرين. لم تخلُ قائمة من قوائم رصد أحوال حقوق الإنسان، أو أوضاع الحريات والخروقات السياسية المماثلة، التي تندرج تحت توصيفاتها "الدول الفاشلة" بالمعايير الأمريكية، إلا وكانت إيران ومعها السودان، بلدين توأمين، تشاركهما تصدّر تلك القوائم - بتفاوت بين عامٍ وآخر- دول مثل كوبا وكوريا والصومال وأشباهها. يشكّل العراق في جانب آخر، مثلاً للدولة التي كانت يوماً "قوية"، أفشلوها فتهاوت. العداء الأمريكي الكوبي صار أبرز علامات حقبة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، فكان البون السياسي هو الأبعد بين بلدين، ليس بينهما من بونٍ جغرافي يذكر. أنجزت الإدارة الأمريكية الحالية إصلاحاً جريئاً في ملف علاقاتها مع كوبا، والتي شكل غياب "فيدل كاسترو" الزعيم التاريخي فيها عن مسرح السياسة في هافانا، تمهيداً نفسياً أفسح للدبلوماسية مساحة للتقارب، فكأن ذلك الغياب هو الإسفين الأخير في نعش حلقة ظلت ساخنة لنحو خمسين عاما في حقبة الحرب الباردة، التي صارت الآن ملفا من ملفات التاريخ الوسيط في القرن العشرين. . (3) الدولة الثانية التي أنجزت الولاياتالمتحدة اختراقاً في علاقاتها معها هذا العام، هي الجمهورية الإسلامية في إيران. بعد الاتفاق الأخير حول الملف النووي للجمهورية الإسلامية في إيران، أمكن للولايات المتحدة، ومعها بلدان الاتحاد الأوروبي، أن تفتح صفحة جديدة مع دولة وصفت مؤسساتها وقياداتها الرسمية والشعبية الولاياتالمتحدة، بأنها "الشيطان الأكبر". لم يخلُ شارع من شوارع طهران كلها، من أول شعار رفعته الثورة التي قادها آية الله الخميني في عام 1979: "الموت لأمريكا"! مفتاح نجاح الثورة الإسلامية في إيران تمثل في التفاف شبابها حول ذلك الشعار، وهو ذات الشعار الذي تبناه طلاب إيران حين اقتحموا مباني السفارة الأمريكية في قلب طهران عام 1979 فاستباحوها استباحة كاملة. لم يلتفت أيّ قيادي أو مسئول في حكومة الثورة الإسلامية آنذاك، إلى حصانة أو حماية مستحقة، يمكن أن يحظى بها دبلوماسيّ أمريكي في تلك السفارة. بعد أن حالف الحظ من غاب منهم أو تسلل خلسة قبل الاجتياح، وقع احتجاز عدد من الدبلوماسيين لفترة بلغ طولها أربعمائة وأربع وأربعين يوما. في الإبان، سعت الإدارة الأمريكية لفك رهائنها من الدبلوماسيين في طهران، بعد أن طال احتجازهم شهوراً طويلة، فانتهت المغامرة إلى كارثة وفضيحة للمخابرات الأمريكية. لقد احترقت طائراتها التي أعدت للعملية في الصحارى الإيرانية. في حسابات شباب الثورة الإسلامية، كانت تلك إحدى بركات قائد الثورة. . (4) انتهى مصير الدولة التي كانت الأقرب للولايات المتحدة، لأن تكون الدولة الأكثر عداءاً والأشدّ بغضاً لواشنطن، من بين جميع دول العالم. ثم كان توصيف الولاياتالمتحدةلإيران الإسلامية بعد ذلك، توصيفاً جعلها الأولى على قائمة الدول الراعية للإرهاب الدولي، وسعت إلى حصارها سياسياً، وإحكام عزلها اقتصاديا وإقصائها تماماً عن المجتمع الدولي. وجدت كل بلدان المنطقة الواقعة حول إيران، حرجاً بالغاً في الاقتراب من طهران. وحدها منظمة التحرير الفلسطينية التي اندفعت إلى طهران، بعد أن قرّر قائد الثورة الإسلامية آية الله الخميني منح المنظمة اعترافا قانونيا، وملّكها مباني السفارة الإسرائيلية السابقة في قلب طهران، لتكون سفارة لفلسطين. السودان وبعد انقلاب 1989 الإسلامي، كان الدولة الثانية التي تودّدت لطهران الإسلامية، فكانت سنداً ودعما للإسلاميين في الخرطوم، بعد أن تردّدت بلدان المنطقة من الاقتراب من الخرطوم آنذاك. يجمع عدد من الدارسين المتابعين، الأكثر تطرفاً في التقييم، والأقرب عقلانية في النظر، على أن سنوات التسعينات من القرن الماضي، هي التي شهدت تنامي العلاقات بين طهرانوالخرطوم، بالدرجة التي أثارت الريب والشكوك لدى أطراف قريبة في بلدان الخليج، وأيضاً لدى الأطراف الأبعد، مثل الولاياتالمتحدة والغرب عموماً.. (5) ارتفع ترمومتر التوتر بين السودان والولاياتالمتحدة، إثر هذه العلاقة، والتي أخذ الإعلام الأمريكي والغربي يردّد ليل نهار أن محوراً إسلامياً معادٍ للغرب قد تشكّل من إيران والسودان. كانت لغة الخرطوم إزاء الأزمة المشتعلة في جنوب السودان في سنوات التسعينات، هي لغة الحرب ولغة الجهاد. أضف إلى ذلك جنوح الخرطوم لإبداء الدعم غير المحدود لجماعات إسلامية في بعض البلدان الإسلامية مثل تونس والجزائر، لا تجد تأييداً في بلدانها لكنها وجدته في الخرطوم. في سنوات التسعينات فتحت الخرطوم أبوابها للثوار الإسلاميين، بل ولغيرهم من الثوريين. لكن أبرز من آوتهم الخرطوم تلكم السنوات: أسامة بن لادن، و إيليتش سانشيز "كارلوس" ود. الظواهري، وعدد آخر من قيادات الإسلاميين من مصر. تحفظ الذاكرة الأمريكية كل هذه الملفات عن السودان حتى قبل وقوع "غارة نيويورك" في 11 سبتمبر 2001 . . (6) كتب الباحث في العلاقات الدولية "دكمجيان" في كتابه "الإسلام في الثورة" الصادر في 1995، أن لبّ العلاقات الإيرانية السودانية يقوم على الدعم الاقتصادي والعسكري. لكني لا أجد سنداً قوياً لمثل هذه المزاعم وقد كنت قريبا من هذه الملفات ذات يوم. في مختصر رؤية واقعية لحال العلاقات الاقتصادية بين السودان وإيران، أورد ثلاثة تجليًات سالبة تعينك على رؤيتها بموضوعية: 1- لم تكف إيران الإسلامية طيلة أعوام التسعينات عن مطالبتها السودان بسداد مديونية قديمة، منحتها حكومة الشاه رضا بهلوي لحكومة السودان عام 1974 والدين الذي لا يتعدى حجمه 74 مليون دولار، بلغ بعد احتساب فوائده الجزائية ما يتجاوز ال 200مليون دولار أمريكي، ظلت إيران الإسلامية تصرّ على سدادها بكاملها.. 2- ثمة اختلال واضح في الميزان التجاري عام 1994،إذ بلغت فيه جملة الصادرات الإيرانية إلى السودان 45 مليون دولار أمريكي ، فيما كان الصادر السوداني صفراً كبيرا. . ! 3- فشل التعاون مع إيران لاستخراج النفط السوداني فلجأ السودان بعد ذلك للبديل الماليزي والصيني والكندي ، وانزوت إيران بعيدا.. ليست هذه صورة لتعاون اقتصادي إيجابي بين إيران والسودان، بل هو تعاون سالب يتوهّمه الأبعدون ويتوجّسون منه، باعتباره مهدداً أمنياً للاستقرار في كامل المنطقة. لا أنفي من ناحية أخرى وجود تعاون عسكري بين السودان وإيران في سنوات التسعينات من القرن الماضي، ولكن برغم قلة معلوماتي أنداك، فإني لا أغالي إن قلت إنه تعاون جد محدود. أورد مثلاً ذي مغزى عن طائرة سي 130 سودانية، أرسلت للصيانة في طهران أوائل التسعينات، فاستبقتها طهران لأكثر من عام لعجز السودان عن سداد تكلفة الصيانة. .! (7) وقع كل ذلك في عقد التسعينات من القرن الماضي، والذي رأت الولاياتالمتحدة ومن حالفها، أن السودان وإيران يشكلان "محور الشر" الذي ينبغي احتواءه ومحاصرته، بل وخنقه.. ونحن إذ نختم هذا المقال، بتجديد الدعوة للنظر بواقعية لمستوى العلاقات السودانية الإيرانية من طرف الإدارة الأمريكية الحالية، فإن ذلك ليس دفاعا عن نظام قائم في الخرطوم، ولكن لمراجعة تلك السياسات التي ترى في الخرطوم فزاعة يخشى منها، فيما يرزح المواطن السوداني إزاء العقوبات الاقتصادية والحصار المفروض على السودان من قبل الولاياتالمتحدة، في ظل معاناة لا أفق قريب لإزالتها. إن الشجاعة التي اتبعتها الإدارة الأمريكية تجاه كوبا وتجاه إيران، قد تجعل ذلك الخيار أقرب إلى الواقع. إن الذي أفضى إلى التحسن الذي رأيناه في العلاقات الأمريكية الكوبية، ومؤخراً ذلك التطبيع الذي لاحت بشائره في العلاقات الأمريكيةالإيرانية، بعد طيّ الملف النووي الذي ظل عالقاً لعقود طويلة، ليرسخ دعائم السلم والاستقرار العالميين. ولعل مثل هذه التوجهات هي التي تزيد من احتمالات إعادة تقييم العلاقات الأمريكية مع السودان، وتجعله أمراً ممكنا. غير أن الرؤية الأمريكية للنظام في الخرطوم تظل عقبة كأداء لا بد من التصدّي لمعالجتها، بحيث ينبغي التفريق بين عقوبات تقع على الشعوب، وأخرى تقتصر على الأنظمة، بقدر ما هو ممكن وما هو متاح. يبقى على الخرطوم أن تنأى بنفسها وتتبرأ مما نفّر المجتمع الدولي عنها، وأن تصلح داخلها إصلاحاً جاداً، وأن تعيد للسودان صورة الاعتدال التي عرفت عنه، منذ نيله الاستقلال عام 1956. . نقلا عن الوطن القطرية [email protected]