شاهد.. مقطع فيديو للفريق أول شمس الدين كباشي وهو يرقص مع جنوده ويحمسهم يشعل مواقع التواصل ويتصدر "الترند"    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تحكم دارفور؟ (الجزء الثاني)


How to Govern Darfur? (part 2)
جيمس مورتون James Morton
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة لشذرات مما جاء في مقال طويل (29 صفحة) للباحث البريطاني المستقل جيمس مورتون ضمن سلسلة "مقالات ومحاضرات السير ويليام ليوس" في جامعة درم البريطانية، ونشرت في عام 20122م بالشبكة الدولية (الانترنيت).
ولهذا الباحث المستقل عدد من الأوراق عن قضايا دول العالم الثالث منها ورقة بعنوان Managing Political and Economic Claims to Land in Darfur، وورقة أخرى بعنوان . How Aid Fails Failed State
المترجم
**** **** **** **** ****
الفرد والقبيلة
لا ريب أن الزعامة القبلية الوراثية زعامة غير ديمقراطية. ويذهب كثيرون إلى أن السلطات البريطانية كانت قد عضدت من سلطات زعماء القبائل في تلك العلاقة غير المتكافئة مع المواطنين العاديين. وعلى الرغم من أن القبائل لا تستخدم الانتخابات، إلا أنه يتعين على الشيوخ وبقية زعماء القبيلة أن ينالوا شرعيتهم ومواقعهم في السلطة عن استحقاق حقيقي في مواجهات مستمرة ضد المنافسين. فالقبائل مؤسسات متطورة ومتمرسة (sophisticated) في إدارة ما يعرف الآن في الدولة الحديثة بصلاح الشعب ورفاهه (public goods)، وتأمينه الاجتماعي، وإدارة مصالحه وإقامة العدل بين الناس. بل كانت القبائل تتعامل بما يمكن تشبيه بالنظام المصرفي quasi – banking والتأمين.
كيف يمكن التعبير عن الديمقراطية دون تصويت؟ إن رجال القبائل يصوتون بأقدامهم. فعندما تغضب جماعة من قبيلة دارفورية من زعيمها فإنهم يهجرونه إلى زعيم قبلي آخر أكثر شعبية وفعالية. فالسياسة هنا تأخذ شكل المنافسة للأتباع وليس الأصوات الانتخابية. ويصدق هذا القول على الشيوخ المكلفين بجمع الضرائب. فشيخ البرتي مثلا يجب عليه تسليم ما جمعه من مكوس للعمدة، إلا أن قدرته على فعل ذلك تعتمد على أتباعه، والذين لا يرغبون بالطبع إلا في إخراج أقل ضريبة ممكنة. وسيفقد الشيخ بالطبع أتباعه ووظيفته أيضا إن عجز عن جمع المفروض عليه جمعه من ضرائب. وهنالك تاريخ طويل للعلاقة بين فرض الضرائب والقيادة القبلية. وفي بداية عام 1874م قابل جوزيف ناختيقيل الجراح والرحالة الألماني في منطقة وداي رجالا من المحاميد فروا من زعيمهم الشيخ حجر بسبب فرضه عليهم ضرائب باهظة.
ورغم أن مبدأ توريث زعامة القبيلة كانت أمرا مسلما به، إلا أنه كان أيضا أمرا قابلا للتفاوض. ففي قبيلة البرتي مثلا يحاول الشيخ أن يورث منصبه لأحد أبنائه بالتشاور مع كبار شخصيات القبيلة. ولكن إذا قرر هؤلاء أن ما من أحد من أبناء الشيخ يصلح لخلافته، فقد يحول الأهالي ولاءهم لشيخ آخر يرون أن له أولادا يصلحون لخلافته.
ولزعيم القبيلة عدة مهام ينبغي عليه أن يؤديها. فعند الحمر مثلا تتضاعف الضغوط على الشيخ أكثر من غيره في القبائل الأخرى. فهو مسئول عن جمع الضرائب، وينبغي عليه أيضا أن يقبل بإقراض بعض أو كل ما جمعه من أموال الضرائب للمحتاجين. وهنا يخاطر شيخ الحمر بوظيفته (إن لم يسترد ما أقرضه). ويفرض ذلك الوضع على الشيخ أن يكون غنيا حتى يمكنه مقابلة أخطار عدم سداد من اقترضوا منه. وبهذا يمكن أن يعد الشيخ بمثابة "مصرف محلي" و"شركة تأمين" لرعيته. وينبغي أن يكون الشيخ رجلا جوادا بين أهله إذ أنه يمثل واجهة جماعته. ولا يمر يوم على العمدة عند الحمر دون أن يكون عنده ضيوف لا بد له من توفير الطعام والسكن لهم. ويتعين عليه أيضا مساعدة كل محتاج من مواطنيه. ويعني ذلك عند البقارة أن يقرضهم أبقارا ليبدأوا بها تكوين قطيع خاص بهم. ويجب على الشيخ أيضا أن يحسن تمثيل مواطنيه أمام الآخرين.
وفي بعض المجتمعات المستقرة تقع على زعماء القبيلة كثير من المسئوليات. وكانت هنالك بئر في قرية بمنطقة البرتي يقوم "رئيس الديمة ra'is al dima" على تنظيم استخدامها بين السكان من مختلف الأعراق، ويتحصل على رسوم نظير ذلك. وكان يسمح أيضا لغير القاطنين بالقرية استخدام تلك البئر، رغم ما يحدثه ذلك من مشاجرات ومناوشات، خاصة عندما يتعلق الأمر بسقاية البهائم. وتقع مهمة حسم تلك المشاجرات والمناوشات على رئيس الديمة والذي كان يفرض غرامات مناسبة على المخطئين. وعند فشله في ذلك يرفع الأمر الى "عقد البير aqid al birr" أو العمدة، أو إلى المحكمة القبلية في نهاية المطاف. وإلى الآن تعد المشاجرات حول الآبار سببا مهما للصراعات بين الأفراد والجماعات، مما يشير لفشل نظم السيطرة (القبيلة). غير أنه ليس هنالك بالفعل جديد في دارفور. فقد لاحظ سلاطين في عام 1881م أن نساء الميدوب كن يرفضن السماح لرجال القبائل الأخرى بالمنطقة سقاية خيولهم قبل أن يملأن أوعيتهن أولا. وكان هؤلاء يردون بالقول: "هذه هي نتيجة منح الحرية لهذا البلد. نقسم بالله .... لولا وجود سلاطين معنا هنا، لصارت أوعيتكن، وأنتن أنفسكن ملكنا". وترد عليهم نساء الميدوب بالقول: "أطال الله عمره هنا!".
وتعد الإغارة على القبائل الأخرى بقصد سرقة المواشي شائعة في دارفور. وكان التعامل مع تلك المشكلة المزمنة هو أحد مهمات شيوخ القبائل. وحكى براون، والذي كان أول أوربي يزور دارفور (يمكن مراجعة المقال المترجم: " د.ج. براون (1793م): أول من وطأت قدماه أرض دارفور من الأوربيين" أن ملهاة (بأرض الميدوب) كانت تتعرض دوما لغزوات من عرب الكبابيش الرحل الذين كانوا يأتون على ظهور إبل سريعة وينقضون على كل ما يستطيعون نهبه من السكان العزل. كان ذلك في تسعينيات القرن الثامن عشر. وبعد نحو 200 سنة من ذلك وصف جون هيلس في رسالته للدكتوراه عن "النظام الزراعي عند الميدوب" هجوما للكبابيش على الميدوب في سبعينيات القرن العشرين أكسبهم ثروة واحتراما من البعض، بينما لم ينل الميدوب (وهم ليسوا عربا) غير سمعة نهب الإبل التي كان يوصف بها الكبابيش أيضا. لم يكن ذلك صراعا بين أعراق مختلفة، أو بين رعاة رحل ومزارعين مستقرين، بل كان صراعا بين قبيلتين من رعاة الإبل تتنافسان حول الموارد.
والرأي العام عند الحمر والبرتي قوي جدا. وتعبر النساء عند البقارة عن ذلك بفعالية وتأثير كبيرين، رغم عدم وجودهن في مشهد الحياة السياسية بسبب الفصل التام في تلك الحياة بين الجنسين. غير أن النساء يعوضن ذلك باستخدامهن للأغاني بفعالية شديدة لدرجة أنهن صرن "حكاما لسلوك الرجال arbiters of men's conduct"، وبإمكانهن تعضيد أو تقويض المستقبل السياسي لأي رجل يتطلع للحكم بمدحهن أو ذمهن له.
أما أهم وظيفة للزعامة القبلية فهي إدارة الصراع في المجتمع. ووصف كينيسون (مؤلف كتاب "عرب البقارة". المترجم) ما يحدث عادة عقب مقتل أحد رجال الحمر. إذ تبدأ الاجاويد (من كبراء القبيلة) بحصر أقرباء الضحية في مكان ما، وإبعاد أقرباء القاتل عنهم. وبعد ذلك تستدعى الشرطة لتلقي القبض على أقرب أقرباء الضحية والقاتل. ثم يسمي الطرفان "ضامنا" من واحد من عقلاء رجال القبيلة المحترمين. وكل هذا يكون بمثابة تهيئة المشهد لإجراء مفاوضات بين الطرفين المتنازعين. وإن تعقد الموقف فلا مناص من اللجوء للعمد والنظار لحل الإشكال. وفي أسوأ الأحوال يؤمر أحد الطرفين المتنازعين بالرحيل بعيدا عن القبيلة، أو بالانتماء لقبيلة أخرى.
ويكون ثمن السلام عادة هو دفع دية، وهي عند البرتي على الأقل، تعني التعويض عن الخسائر التي وقعت في الممتلكات (مثل قتل جمل). ويعد مقدار الدية ومن يدفعها مؤشرا مهما على البناء الاجتماعي. وتعتبر الدية في القانون الإسلامي (الشرعية الإسلامية) بمثابة تعويض لعائلة القتيل من عصبة /عاقلة القاتل (أي أسرته الأبوية). وهي بمثابة "تأمين". وتتوسع تقاليد السكان بغرب السودان في هذا "التأمين" وتعممه على كل أفراد القبيلة ولا تقتصر على أسرة القاتل الأبوية. ويتضح عامل التأمين بصورة أوضح في طريقة جمع الدية، وطريقة توزيعها على أفراد أسرة القتيل. فيتولى أقرب الأقربين للقاتل دفع ثلث الدية، بينما يسلم أقرب الأقربين للمقتول ثلثيها. ويتولى بقية أفراد القبيلة دفع ثلثي الدية، بينما يتقاضون أقل قدر ممكن منها، بما قد يمثل بالفعل "قسط التأمين insurance premium. ويقوم "رئيس الدية" عند البرتي بتنظيم عملية جمع الدية من أهله. ويشبه تدرج الدفع scale of payment عندهم ما يكتب عادة في عقود التأمين البريطانية، إلا أنه عوضا عن كتابة ألف جنيه عن الأصبع مثلا، فهي عند البرتي ثلاث أبقار، وزوج بقر لناب الكلب.
وقد تتأثر القرارات المتعلقة بالمشاركة في دفع دية من قتل بالعداوات التكتيكية (tactical hostilities) والتحالفات (alliances) في وسط المجتمع. فعند الحمر مثلا قد تسعى مجموعة ما لتقوية رابطة الصلة والقرابة kinship)) الضعيفة نسبيا بالتحالف مع جماعات خارج دائرة الأقرباء، والقسم على المصحف الشريف للولاء لهذه المجموعة. ولا تدفع دية في حالة قتل الرجل لأحد أقربائه المقربين، بل تقام "صدقة"، ليس على سبيل التعويض، ولكن قربانا (offering) لروح الميت. وكلما بعدت صلة القرابة بين القاتل وضحيته، كلما غدت عملية دفع وتسلم الدية أكثر رسمية وتعقيدا.
ويعتقد كينيسون أنه لم تكن هنالك في الماضي إجراءات خاصة بالدية عند القبائل الكبيرة. فقد كان الانتقام هو العلاج الأوحد لجريمة القتل التي يرتكبها أحد أفراد قبيلة أخرى. ثم قامت الإدارة الاستعمارية بإدخال الدية بين القبائل (inter -tribal) عرفت بدية الصف al saaf وأودعت نصوصها في عواصم المديريات، وكانت تنص على أنه يتوقع من كل أفراد القبيلة أن يشاركوا في دفعها.
وتفرق القبائل بدارفور بين القتل murder، والقتل الخطأ / غير المتعمد manslaughter، والقتل المتعمد homicide. ولا تقبل الديات عند تلك القبائل إلا في حالة القتل الخطأ. إلا أن القتل خلال مشاجرة عادية يعد عندهم أمرا عرضيا. وتسمح قوانين الشريعة لعائلة الضحية برفض الدية والمطالبة بالقصاص، خاصة عند التأكد أمام القاضي من أن القتل كان قد تم مع سبق الإصرار والترصد. أما إذا قبلت عائلة الضحية بالدية، فحينها تقع مسئولية دفع الدية كاملة على القاتل، وليس على أقربائه أي إلزام بالمساهمة في دفعها. غير أن القوانين العرفية customary laws ليست واضحة في هذه التفاصيل، وكثيرا ما يلجأ القتلة إلى الشيوخ والعمد لحمايتهم من عمليات الانتقام والثأر. وفي هذا الزمان يفضل القتلة أن تحاكمهم المحاكم الحكومية مخاطرين بالحكم عليهم بالسجن. غير أن المحاكم في العهد الاستعماري كانت تسمح أيضا بتخفيض الحكم على القاتل إن التزم بدفع ما عليه من دية.
الحرامية الذين "يأكلون" الناس
رغم أن اللغة تفصح عن الكثير، إلا أنه يصعب أحيانا تفسير مرامي الكلمات التي تقال. ولعل هذا هو السبب الذي جعل الانجليز يدخلون كلمات كثيرة بالعربية في أحاديثهم وتقاريرهم. وكتب ماكمايكل (أحد الذين وضعوا أسس الإدارة الأهلية بالسودان) ما نصه: "لقد رأيت بعض حالات من الظلم الفاحش واستغلال "الحكم Hukum" ما كان "الناس nas" ليقبلوا به لو كانوا يعلمون ما الذي يجري". والمقصود هنا ب "الحكم" السلطة القضائية، بينما عرف ويليس "الناس" هنا بالرعية أو الذين لا سلطة لهم ولا حول ولا حيلة. وتتناقض تلك الصورة لصفوة قيادة قبيلة ظالمة تقوم باستغلال رعيتها الأبرياء مع صورة المجتمع المتنافس سياسيا politically competitive society والتي رسمتها آنفا، والتي تشير إلى مجتمع يدرك "الناس" فيه جيدا كيف يسيطرون على زعمائهم. ولم يكن من المستحيل تصور احتمال أن المشكلة ليست في "الرعية الذين لا يعلمون ما الذي يجري"، بل في الإداريين البريطانيين الذين كانوا يحاولون تطبيق أفكارهم "الأجنبية الغريبة" عن الصحيح والخطأ، والحق والباطل، على مجتمعات مختلفة جدا.
وكانت الإدارة البريطانية مترددة جدا فيما يخص الزعامة القبلية، وهي الأساس الذي تقوم عليه الإدارة الأهلية. ولم يكن أمام البريطانيين – خاصة في سنوات حكمهم الأولى - إلا أن يعتمدوا على زعماء القبائل من اجل إدارة الشئون المحلية لمواطنيهم. وكانوا يثقون في حسن إدارتهم لمناطقهم إلا إذا ثبت بالدليل القاطع أنهم كانوا غير مخلصين للإدارة البريطانية، أو غير عادلين بحسب معايير الأهالي. غير أنه كان واضحا أن للبريطانيين صعوبات جمة في تفسير "معايير الأهالي" تلك. ومَهَرَ الساسة القبليون في استغلال عدم كمال فهم ومعرفة البريطانيين ب "معايير الأهالي". وكانت ترد كلمة "ظلم" بكثرة عند الحديث عن الإدارة الأهلية. فكثير من المجتمعات القبلية كانت تصف زعماءها بأنهم "ظلمة"، وبأنهم "مظلومين". وكان البريطانيون حساسون جدا تجاه تلك الاتهامات، رغم أنهم لم يكونوا على دراية كاملة بمكونات وأسباب ذلك "الظلم".
أما "الأكل" فهي كلمة تطفح بمعان مختلفة. ولسبب ما فقد ظل البريطانيون يستخدمون تلك الكلمة مترجمة للإنجليزية Eating. والمقصود بالكلمة هنا هو اختلاس أموال الضرائب والأموال التي تجنيها المحاكم من غرامات وغيرها. وحكى أحد البريطانيين في عام 1920م عن أحد نظار الهبانية في عهد المهدية، واسمه محمود أبو سعد، والذي أعادت الحكومة الاستعمارية تعيينه ناظرا في دارفور رغم أنه كان قد بقي مسئولا في عهد الخليفة بأمدرمان لزمن طويل. ووجد ذلك الناظر صعوبة شديدة في التأقلم على إدارة نظارته في دارفور، وكان الأهالي يتهمونه بالشح، وبأنه يخدم الحكومة بأكثر مما ينبغي. غير أن مساعد مفتش المركز دافع عنه بالقول بأن الرجل لم يكن من النوع الذي يمد الموائد لكبراء الأهالي أو يقدم لهم هدايا من السكر والشاي. ولكن كان من نتائج "شح" الناظر أن توقف الشيوخ عن دفع ما يجمعونه من ضرائب من مواطنيهم وعن توقيف المتهمين. فتم عزل ذلك الناظر وتعيين خليفة له هو الغالي تاج الدين. ثم تبين لهم أنه لا يختلف كثيرا عن سلفه، فلم يتردد البريطانيون عن وصفه بأنه "الناظر الأكثر فحشا في الظلم". غير أنه بقي في موقعه لمدة 15 عاما أخرى لأنه كان يلبي توقعات من تحته من الشيوخ والعمد والأهالي، فكسب بذلك سمعة جيدة في أوساطهم. ومع مرور السنوات تشدد البريطانيون في معاييرهم فقاموا في عام 1942م بمحاكمة الناظر الغالي بتهمة "أكل" (أموال الناس). ولما أدين الناظر بذلك الجرم احتج – ربما محقا - بأن ذلك ليس عدلا، إذ لم يكن بمقدوره العيش على راتبه الحكومي، وأنه لم يفعل سوى ما يفعله كل النظار الآخرين والذين "يأكلون" رعاياهم. وأضطر الناظر الغالي للاستقالة، وتم تنصيب ولده المتعلم علي ناظرا على الهبانية. ولكن بعد ثلاث سنوات تم فصل عمد الهبانية لرفضهم الجلوس مع ناظرهم علي الغالي في المحكمة الأهلية. وهنا أبرز نظار القبائل المجاورة نفاقا عجيبا عندما أيدوا عمد الهبانية في تمردهم على ناظرهم بدعوى أن ذلك الناظر قد حرم عليهم "الأكل"، بينما كان يحتفظ بما كان "يأكله" هو من عائدات الضرائب وغيرها من الأموال. وبذا وقع الناظر علي الغالي بين مجموعتين من التوقعات المتناقضة وغير المتوافقة: من أجل "الاستقامة rectitude" من جانب الحكومة، والتسامح والتحرر liberality وغض الطرف من جانب قبيلته.
وبهذا فيمكن القول إن "الأكل"، على الأقل بالنسبة لقبائل البقارة، ليس أمرا سيئا في حد ذاته، ولكنه يغدو ظلما إن استأثر الذي "يأكل" بكل ما تحصل عليه ولم يوزع بعضه على من تحته. ورغم ذلك فإن رجال القبائل لا يكفون عن استخدام سلاح الاتهام ب "الأكل" و "الظلم" في السياسة القبيلة.
وأشار كينيسون أيضا في كتابه عن كردفان إلى استخدام كلمة أخرى عند الحمر وهي كلمة "حرام Haram". ولهذه الكلمة معان إسلامية وتقابل بالإنجليزية كلمة sin، بينما تعني كلمة حرامي Harami لص أو قاطع طريق. غير أنها عند الحمر تعني شيئا أكثر دقة وحذقا وإيجابية، وتلخص مدى احترامهم للثروة والقوة والسلطة. فالنظار في رأيهم "حرامية"، والحكومة أيضا "حرامية"، ولكن بيدهم السلطة... ولهم الحق في أن يكونوا حرامية. وكان الحمر، مثلهم مثل الهبانية، لا يرون بأسا في كون النظار أو الحكومة "حرامية"، ويعدون ذلك أمرا أخلاقيا تماما. فهم يخفون أبقارهم عن أعين جامعي الضرائب كي "يأكلوا" الحكومة، ولكن إذا اكتشفت الحكومة تلك الأبقار المخبأة وفرضت عليهم غرامات، فسوف يقولون إن الحكومة "تأكل" الحمر. أي أن الحمر يعتبرون أن الحكومة "حرامية" لا تختلف عنهم إلا في امتلاكها القوة والسلطة.
ولم يقتصر غموض مفهوم "الأكل" في عهد الحكم البريطاني على البقارة. فقد كان هنالك، زعيم فوراوي في ديار ديما Diima في بدايات القرن العشرين اسمه عيسى كلو بارد Isa Kul Barid . وبحسب ما أتى به أوفاهي في كتابه عن تاريخ سلاطين دارفور كان لقبه "كلو بارد all cool" يفيد بأنه كان رجلا خيرا صبورا، أو قد يعني أيضا "أكل بارد" لأنه كان "يأكل" من تحته من الرعية، وكان أيضا رجلا "باردا" أي أنه كان متعاليا عليهم. وكلمة بارد Barid كلمة غامضة ملتبسة المعني، تماما مثل كلمة "أكل". وهذا قد يدعونا لنقدم احتمالا ثالثا لسبب ذلك اللقب وهو أن الرجل كان يأكل ببرود coolly أو قليلا lightly مما يشير إلى أن مطالب الرجل كانت بسيطة ومعقولة. ويزداد الارتباك حول كلمة "الأكل" عندما نقرأ ما كتبه أوفاهي عن أن كلمة "أكل" عند سلاطين الفور كانت كلمة معيارية لاستخدام عائدات الدولة استخداما قانونيا. فقد جاء في عقد charter أقره السلطان محمد الحسين (1838 –73) ومنح بموجبه صكا للفكي عبد الله جاء فيه أنه يحق للفكي:" أن يأكل الزكاة والهاملHamil وزكاة الفطر fitr والضرائب التقليدية".
لقد حاول الإداريون البريطانيون بكل ما وسعهم فهم ما يجري من حولهم. غير أنهم كانوا مثقلين بمسئوليات جسام، وكان عددهم قليلا (بالنسبة للأراضي التي يحكمونها). وربما كانت هنالك مؤامرة من النظار والعمد، وربما حتى من الرعية، لإبقائهم "في الظلام" (بمعنى إبقائهم في حالة من الجهل وسوء فهم لغة وعادات وتقاليد البلاد). وربما كان أعظم سوء فهم عند البريطانيين هو سوء فهمهم لتدرج المسئوليات التي كانت تتحملها القيادات القبلية، وسوء تقديرهم لتكلفة الحفاظ على موقع سلطتهم في مواجهة رعية (ناس) كانوا على أتم مقدرة واستعداد لإخبارهم بما يريدونه. وليس معنى ذلك بالطبع أن الابتزاز والرشوة وكل أنواع الظلم الأخرى لم تكن شائعة. غير أن الكشف عن تلك الأنواع والتعرف عليها كان صعبا جدا، خاصة إن كان زعيم القبيلة يحظى (أو يبدو أنه يحظى) بتأييد أفراد قبيلته.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.