عندما انفصل الجنوب توقعت حدوث ثورة ؛ وارتباك اجتماعي وحراك ثقافي ، لكن لا شيء من ذلك قد حدث ، لقد مر الأمر بسلام ، وقد أعطاني الشعب السوداني بذلك درسا هاما ، أن الحدود وهمية ، صنعها الاستعمار ، وصدقتها الشعوب والحكومات ، إن فكرة جمع المتناقضات تحت سقف واحد كجمع ضرتين في منزل ، لا يكون ناتجه سوى الصراع ، إن الدول ذات المكونات المتباينة حتما وفرضا تاريخيا عليها أن تخوض الصراع ، أن تخوض تجربة الانفصالات القسرية أو البقاء في حروب أهلية ، اليمن يسير في هذا الاتجاه والسودان كذلك .. والخليج كله سيحقق استقلالاته وانفصالاته ولكن ليس الآن ، إن الإسراع في تحقيق آمال وطموحات مجموعة ذات مكون ثقافي مشترك بالاستقلال في رقعة جغرافية معينة سيكون هو معالم المستقبل للدول الأفريقية التي لم تستطع تحقيق التعايش والتشارك والاندماج خلال الخمسين عاما الماضية ، لقد كان الصراع الأمريكي السوفيتي يخفي ويخفف من حالات الاحتقان القبلي والجهوي في دول العالم الثالث ، ولكن وبانتهاء الحرب الباردة وبوصولنا إلى عولمة الاتصالات فإن المجموعات البشرية المنفصلة أخذت تدرك ذاتها وتكتشف ذاتيتها جيدا وأخذت تتنامى فكرة الحقوق الخاصة في مواجهة المخاوف الكلاسيكية كالسيادة والأمن القومي . لم يعد من الممكن المصادرة على حقوق هذه المجموعات أكثر من ذلك ولذلك انبثقت الحروب الأهلية وستتزايد عبر السنين في هذا العالم الحداثي. أصبحت هناك مطالب فئوية وقبلية وجهوية ، مطالب بالمساواة ، وهذه المساواة لن تتحقق أبدا ﻷن القوى المسيطرة لا تريد فقد مزاياها في الثروة والسلطة ، إن فكرة تغيير العقول ابستمولوجيا تصبح صعبة ﻷن التاريخ المأساوي يترسخ أكثر وأكثر ، في السودان الآن استرجاع ومحاكمات تاريخية قبلية وجهوية ، محاكمات ينهض عليها المثقفون في كل جهة وقبيلة على حدة ، والغرض منها تأكيد الحق وانتزاعه أيضا ، مما يؤثر على باقي القبائل والجهات ويقلق الوضع الأمني في الدولة ككل ويستنزف الإقتصاد القومي يوما بعد يوم . وبالتالي لا يحصل الجميع سوى على مزيد من التدهور في كل مكونات الدولة وقطاعاتها المختلفة. إن ما أراه هو أن نكون أكثر واقعية فالمشكلات التاريخية لا يمكن حلها بالأماني بل بالتضحيات ، وهي لن تكون تضحيات ضخمة ومادية بل تضحية بأوهام الحدود والسيادة ، ما الذي يمنع من فصل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ؟ لا شيء فلتنفصل هذه المكونات البشرية التي هضمت حقوقها حقا أو توهما ، ولتحصل على حدودها الخاصة ودولتها الذاتية وليكن لها تجربتها مع الدكتاتوريات والديموقراطيات والحروب . مالذي يمنع من انفصال الشرق ؟ إن مليارات الشرق من الدولارات والتي تدخل له عن طريق ميناء بورتسودان يتم تبذيرها وإضاعتها في حروب الغرب وفساد الحكام وشراء ذمم المنتسبين للشرق ، أليس من الأفضل لدارفور أن تنفصل بدل إضاعة المال في شراء ذمم بعض رموزها وكف أصواتهم وشجارهم حول الوليمة ؟ فلنمنح دارفور استقلالها ولنترك شعبها يتعامل مع مشاكله ، ويتجرع تاريخه المأساوي مع الشمال وحده . أو يلغي هذا التاريخ تماما من المقررات الدراسية. إن السودان لا بد أن ينفصل إلى دويلات وهذا ليس فيه شيء فقد حان لنا أن نعترف بفشلنا في جمع الشتات في بوتقة واحدة بدل الإصرار على القمع من ناحية ودفن الرؤوس في الرمال من ناحية ثانية. لقد انفصل الجنوب فلماذا لا تنفصل دارفور والنيل الأزرق كذلك؟ وكل مجموعة بشرية في رقعة ما تشعر بأنها مغبونة وحقوقها مهضومة فلتستقل بذاتها. أم أننا سنقول ما قاله المسيح : (ماجمعه الله لن يفرقه إنسان) .. فنقول بأن ما جمعه الاستعمار لا يفرقه إنسان. لقد فرض الواقع المرير على المسيحيين الطلاق وسيفرض ذات هذا الواقع الطلاق بين الشعوب السودانية غير المتجانسة وغير المتعايشة. فلتستقل دارفور وتعيش على مواردها . وليستقل الشمال وليعش على موارده . على الأقل سيشعر الجميع بأن كتابة التاريخ صارت ممكنة ؛ كل حسب وجهة نظره. الكردفاني 2سبتمبر2015 [email protected]