سألني الدبلوماسي الجهبذ الخضر هارون أن أذكره بمناسبة أستشهاد أستاذنا عبد الخالق محجوب بقول عنترة بن شداد: يٌخبِرك من شَهدَ الوقيعةَ أنني أغشى الوغى وأعِف عند المَغنمِ واقول: جاء استشهاده بالبيت في أول بيان للحزب الشيوعي في مناسبة انتصار ثورة اكتوبر 1964. وهو بيان ذيله باسمه هكذا (عبد الخالق محجوب عثمان) عن الشيوعيين السودانيين وليس الحزب الشيوعي. وكان التوقيع والتوكيل عنا معشر الشيوعيين ضربة معلم نفسية غراء لامست حسنا بالخروج إلى الجهر بعد ست سنوات طوال من السر. وكان خاتم أستاذنا على البيان إجازة قبول ونجاح. وجاء بيت عنترة في سياق الحديث عن بذل الشيوعيين السخي في مغالبة نظام عسكري باكر ما تعلم أياً طرائقه وبؤسه وبأسه. وكنا رأس سهم مقاومته بالقريحة والعزيمة. واستدعى أستاذنا عنترة ليقول إن بذلنا في الوغى كان بلا مَن ولا أذي أو إنتظار مغنم، خالصاً لوجه الشعب والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. نشأ الجيل الشيوعي على محبة غراء للعربية وفصاحتها. وسبب ذلك جاء به الدكتور محمد نوري الأمين في دراسته القيمة عن الحزب الشيوعي. فخلافاً لشيوعيين في بلاد كثيرة خرج شيوعيو السودان من الأشواق القصوى للحركة الوطنية. وكانت العربية لسانها بل معجزتها إن شئت. فقد كانت العربية "أم اللغات" وفكرها هو البينة الوطنية على استحقاقنا الحرية التي اعتقد المستعمرون أنها لا تقع إلا لناطق الإنجليزية. وكان أستاذنا مغرماً بالأدب عقادياً (محمود عباس العقاد) كسائر من عشقوا العقاد من رموز الحركة الوطنية. وكان ينهل مما يأتيه والده من صحف مصر وويوقم بخدمة عرفات محمد عبد الله، محرر الفجر، صديق والده والزائر المدوام له. بل كان ممن استفاد مع زملائه بالثانوية من عرض حسن بدري ليسلفهم كتباً من مكتبته يقرأونها ويعيدونها وطنية منه. وانعقدت حلقات مذاكرتهم الأدب وارد مصر عند شاطيء النيل الأم درماني قبالة مقرن النيلين. وكان أستاذنا يحسن التعبير بالعربية. أقرا دفاعه أمام محكمة عسكرية عام 1959 وسترى عجباً في عبارته العربية الرشيقة. وحفظ جيلنا منها مقاطع كثيرة من فرط أسرها. وأذكر منها تصويره لطريق المناضلين المستقيم وطريق غيرهم المعوج فقال: أمامك فأنظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج بل من تأمل حتى تقاريره السياسية المحض وجد سلاسة متناهية في التعبير وديباجة عربية مشرقة. وكانت اللغة في مركز الدائرة من عنايته. فاللغة هي السياسة في آخر التحليل. فنظر في تقريره التربوي (في سبيل إصلاح الخطا في العمل الجماهيري، 1961) إلي مسألتين من مسائلها وهما تنوع لغات السودان وتعددها ثم فارق لغة الحديث بالعربية عن لغة الكتابة مما يسمى "الإزدواج" أو (دايقلوسيا) في لغة الفرنجة. وحله للمسألة الأولى معروف. أما من جهة إزدواج التعبير بالعربية فدعا إلي الاقتراب من لغة الشفاهة في الكتابة الحزبية لا عن إهمال للفصحى بل لأن "اللغة العربية مرنة" ويمكن أن تسع هذا المشروع. ويوم تجري دراسة محققة للعربية في السودان سنعرف أن الشيوعيين كانوا الأكثر استهلاكاً لها في محاولتهم التعبير عن أشواق معاصرة معقدة. يحيرني من أين تسربت البغضاء للعربية لشيوعيّ أيامنا هذه حتى أصبحنا في نظرهم "مستعربين" وكنا عرباً في ما علمنا عن أنفسنا. وسألت أمس: ما مقادير العربية التي يصبح بها "المستعرب" عربياً؟ وتحضرني هنا حكاية أحدهم. كان لا يأمن لسلعة يشتريها. فتجده يقلبها فهي دائماً دون توقعه عن جودة ما يريد. وقف يوماً ليشتري ثلجاً فقلبه مرات وقال للبائع: ما عندك أتلج من دا؟ وربما صدق قول هذا المشتري الموسوس على من وصفنا بالمستعربين: ما عندك أعرب من دا؟ [email protected]