كانوا يدعونهم "المنفيين". وكان هؤلاء شرعوا في التسلل من المدن إلى الصحراء، زرافات ووحدانا، وبنوا هناك حفرا عميقة في باطن الأرض، وبصورة من الصور، أقاموا مصدا متقدما وآخر للريح في محيط تلك الحفر، لئلا تعود تلك الطبقات من الرمال، وتدفنهم أحياء، لحظة أن يمس الصحراء جنونها العاصف. كان أكثر جوانب ذلك المعمار عبقرية يتمثل في صنعهم عروش وأثاث من العظام المتيبسة. وقد حدث ذلك بالضبط بعد أن تحول أولئك المنفيون إلى نمل أبيض ضخم لا يتغذى سوى على رجال أمن الدولة. أثار حيرتنا في الجهاز أن النمل المعني ظلّ يميز بسهولة بين رجالنا المدسوسين بعناية في ثنايا القوافل العابرة إلى مصر أو ليبيا أو تشاد كتجار ملح أو شذا ذ آفاق أو رعاة إبل أو أمريكيون دفعهم الملل إلى السياحة في أرض قفر. فكلما أرسلنا "غواصة" كانوا يلتهمونه بسرعة جعلتنا نعاني مع مرور الوقت نقصا في "الأنفس" أو الكوادر. هكذا، حين يفرغون من وجبتهم، يقبعون داخل حفرهم، بأنفاس مكتومة، بينما ينصتون في تلك الجحور المنفصلة منعا للتشويش لما تقوله أمعاء قتلاهم، فما أن يصل لحم الضحية الى منطقة محددة من بطونهم، حتى يبدأ في التكلم والكشف عن أسرار أمن الدولة وخططها المستقبلية في شأن "تنظيف العالم من آفات السياسة الضارة". توصلنا إلى معرفة ذلك، بعد أن قمنا بتكثيف الإرسال، وزيادة البث الإذاعي، إلى مناطق الصحراء الموحشة، عارضين مبالغ ضخمة لمن يدلنا على رجالنا الذين ذهبوا إلى الصحراء كما أسلفت في شكل تجار جمال غرباء وغيره، ثم لم يعد أحد منهم، أو يصل إلى الجانب الآخر، على الرغم من تمكنهم من معرفة عدد ذرات الرمل ونوعية الحشرات والهوام الصديقة في كل كثيب وغور عميق وفج. ولكن لا تظنن لحظة واحدة أن اكتشاف حيلة أولئك الثوار في التحول إلى نمل أبيض ضخم كان بمثل تلك السهولة. لقد بدأت مسألة اختراقهم من خامس المستحيلات. إذ كلما أرسلنا "غواصة" أكلوه واستمعوا بعد ذلك لأقواله التي تكشف عن أسرار أمن الدولة من بطونهم بما في ذلك أسماء وألقاب وصفات رجال أمن في مهام أخرى مماثلة، على وشك الوصول إلى الصحراء، في أعقابهم، حتى أنه لم تنجح مع أولئك المنفيين المتحولين إلى آفة، حيلة ارسال غواصات ب "ذاكرة بيضاء"، تقليلا لحجم الخسائر والاختراقات الأمنية المتوقعة، فهؤلاء بذاكرتهم البيضاء لم يزيدوا لسبب أو آخر على صفة كونهم غدوا نكات مسلية تغذي بالبهجة أرواح أولئك المتحولين في الليل المقبض الطويل لصحراء العدم. هنا، تفتق ذهن الرائد أمنجي طبيعي بالولادة "ملك الهواء"، عن فكرة جهنمية غير مسبوقة. حيث اجتهد في دراسة عناصر قوة وضعف هواء الصحراء ذي اللون الأغبر المعكر، والذي رأى أنه بوشاحه الرملي الدقيق الناعم يشبه ابن الجارية كثيرا، أي أن في طبعه غدر وخسة وأذى، وأن عقدته التاريخية تتمثل في رغبته الجارفة منذ مليارات السنين في أن يصير حامل عبير إلى أنف حسناء أقنى، على شاطئ الكاريبي، فتودد ملك الهواء إليه، واعدا أن يزاوج بينه وبين النسائم العليلة لبساتين النهر، عسى ألا تشيح الكائنات بوجوهها عنه ثانية. إلى جانب أن هواء الصحراء اكتفى في أثناء تلك المفاوضات الشائكة والمعقدة بعطية مبلغ نصف المليون دولار من دون أن يدري على وجه الدقة متى وكيف وأين سينفقها. وقد رد وقتها متهكما على من لم تفارقهم عادة دس الأنف في شؤون الآخرين من مسؤولي قسم الاستثمار في بنك الخرطوم، قائلا "أنا حر في مالي. إن شئت لعبت به صاعدا إلى السماء في هيئة دوامة. وإن شئت نثرته على قمم الجبال. وإن شئت قذفت به إلى غابة مشتعلة بالحريق. وإن شئت مسحت به مؤخرات البقر". هكذا نجح ملك الهواء في تجنيد هواء الصحراء. وما نقله إلينا هواء الصحراء من صور أمينة ودقيقة عن مجتمع أولئك المنفيين. قد ساهم على وجه السرعة في صعود فكرتين. أولا: تكثيف الإذاعة الموجهة إلى الصحراء لتكليب سكان المناطق القليلة المأهولة ضد المنفيين المتمردين. مثلا، أخبرناهم أن كل من يقتل نملا أبيض ظهر حديثا في مناطقهم سيمنح على شاطئ النيل قصرا تجري من تحته المياه. وقد عملنا على بث خطاب السيد الرئيس الخاص باكتشاف منابع من العسل لا تنضب ناحية سواكن مئات المرات. كما قمنا بترجمة أمينة ومتقنة لمناشدة الممثلة الأمريكية الشقراء نوال تاج الزين لرجال الصحراء ووعدها بمقاسمتهم مفاجأة على نحو خاص في حال أن عثروا لها على رأس نمل أبيض يجوس بينهم متحدثا على طريقة الثعالب عن العدل والحرية وحقوق الإنسان. ثانيا: ضرورة اكتشاف أمنجي بشري، يمتلك خاصية الظهور في الشمس من غير ظل، على الصعيد الميداني، خاصة وأننا اكتشفنا، من خلال التقارير المتواترة التي ظل يبعث بها هواء الصحراء، في خضم هوايته الجديدة كمستجد نعمة حيث ظل يغطي بدولاراته سماوات أكثر القرى فقرا في القطر دون أن يسمح لها لحظة بالهبوط إلى مستوى تناولهم، أن مقتل الأمنجية السابقين كان يتمثل في ظلهم الذي كان يسقط على الرمال مرتديا الزي الرسمي وموضحا على نحو الدقة درجة رتبهم العسكرية، حتى لو تم توقيفهم من قبل الثوار وهم متنكرين في هيئة صيادين ضلوا طريقهم إلى البحر أو عراة. وأخبرنا "هواء الصحراء"، الذي أنساه الولع بهوايته تلك أمانيه القديمة في التحول إلى عبير، أن الإعياء أخذ يتسلل إلى عظام مجتمع المتمردين الصحراوي، وأن الحنين الممض القارض إلى المنازل الباردة صيفا والغرف الدافئة شتاء قد تمكن منهم منذ أمد بعيد، وأن وحشة الصحراء قد بدأت بالفعل تأكل في أرواحهم، ناخرة أدنى إمكانية لسموهم فوق جراحهم الصغيرة، فلم يعد يروي أفئدتهم العطشى إلى السكينة ورؤية المرابع الأليفة سوى الملل والتذمر والضجر والشكوى من هجير الأيام اللافح. وأكد هواء الصحراء أن أولئك المتمردين شرعوا يتعلمون بين براثن اليأس وتفاقم الشعور بلا جدوى المجهود المبذول سياسيا هواية قتل الذين يلهمونهم بالخيال على وجه الخصوص. لقد كانوا على أية حال في حاجة إلى قتل شيء قيم يحقق لهم التوازن ويشعرهم بوجودهم الميت وذواتهم المنسية في صحراء أضحت معادية شيئا بعد شيء، وقد أخذ عددهم يتناقص على نحو مريب، وقادتهم يبيتون بليل على أسرّتهم، فلا يستدل على أثر عليهم في الصباح. كان الجفاف، الذي غمر كيانهم، كفيلا وحده، يقول هواء الصحراء مغالبا حزنه لضياع أحد دولاراته، بأن يجعل فرج العجوز نفسه يبدو في أذهانهم كفردوس. ثم لا تظنن أن الاجتماع بهواء الصحراء كان أمرا في مثل سهولة وسلاسة محادثة شائكة. كان الأمر أشبه بلقاء حملة سيوف بطائرة مقاتلة. كان الأمر يتطلب دائما ارتداء نظارات خاصة وأقنعة مصممة خصيصا لوقاية الأنف والفم والأذن من ذرات الرمل الدقيقة وكذلك الجلوس في أمكنة خلوية على كراسي مثبتة جيدا بجنازير ومزودة بأحزمة أمان تحوطا من حدوث خدعة أو أية زوبعة يمكن أن يقوم بها ابن الجارية فنجد أنفسنا فجأة محلقين بين طيات السحاب وقد غادرنا حلم العودة إلى الأرض دون كسور مرة وإلى الأبد. المرة الوحيدة التي وجدنا فيها أنفسنا بين يدي الشيطان كانت أثناء اجتماع أطلق خلاله أحد رجالنا نكتة جعلت ابن الجارية يرتج بالضحك حتى ظننا أنه لم يبق حجر مسنون واحد لم يحلق بعد فوق رؤوسنا. كان يتم اختيار مكان الاجتماع عادة في منطقة يمكن لأي إنسان ذكي أن يتوقع أن يجد فيها كل شيء حتى لبن الطير ونقانق الجن الأحمر نفسه عوضا عن خصيتي أحلام العانس عدا "هواء الصحراء". هكذا، بدت البساتين والجزر الخضراء الواسعة داخل الأنهر في تلك الأيام بمثابة أمكنة مثلى للقائه. [email protected]