فجع الكثيرون بنبأ وفاة د. الترابي، شخصياً حزنت شديداً لفقدان البلاد علماً ومفكراً مجدداً وسياسياً محنكاً ترك بصمات واضحة في خريطة السودان قديماً وحديثاً. إلتقيته في حياتي مرات قليلة تعد على أصابع اليد. في إحدى المرات حييته بالفرنسية فرد علي بمثلثها وسألني عما إذا كنت أتحدث الفرنسية فأجبته بأنني أحمل الماجستير والدكتوراة في الفرنسية وسألني عن الجامعات التي درست فيها. أبرز تلك اللقاءات عندما التقيته في منزله العامر ضمن وفد لجنة من منبر الحوار والسياسات التابع لجامعة الخرطوم. كانت ضمن الحضور عدد من قيادات المؤتمر الشعبي. كان هدف اللقاء توضيح رؤية جامعة الخرطوم للحوار الوطني. رحب بنا الشيخ الراحل ومعاونوه من قيادات المؤتمر الشعبي أيما ترحاب. كان حديثه لنا الذي استمر لأكثر من ساعتين سياحة دسمة وممتعة في تاريخ الحياة السودانية وكان ذلك قبل بداية الحوار بفترة. من خلال حديثه المترابط والمتحمس للحوار الوطني تأكد لنا تماماً بأن الشيخ هو مهندس الحوار الرئيسي وذكر لنا تفاصيل دقيقة عن الكيفية التي سيسير عليها الحوار وأسر لنا ببعض مما يتوقعه من نتائج أو بالأحرى ما خطط له من نتائج والتي ظهرت فعلياً في مخرجات الحوار. بعد إنتهاء اللقاء وقبل أن نغادر والساعة تعدت الحادية عشر ليلاً فاجأنا الشيخ الراحل بإصراره علينا على تناول العشاء معه وأشار إلينا بمزحه أنه عشاء عادي وبالفعل جلست بجوار الشيخ أرضاً وتجاذبنا أطراف حديث مع الآخرين لا علاقة له بالسياسة وكانت أمسية جميلة. بالفعل كان عشاءً عادياً ولكن دسامته بالنسبة لي شخصياً في حضرة الشيخ وأعلى قيادات الحزب. وددت بهذه المشاركة الإشارة إلى بعض مشاهد فاجعة الشعبي والشعب: المشهد الأول تلك الجموع الغفيرة التي ضاقت بها مقابر بري وما جاورها والتي شكلت صورة متنوعة لمكونات الشعب السوداني المجتمعية التي هزتها الفاجعة وآلمها الفراق المر الذي سببه رحيل شخصية سودانية فذة قد تتقف أو تختلف حولها ولكنك لا تملك إلا الإعتراف بالدور الكبير الذي لعبه الشيخ الترابي في الحياة السودانية حاكماً ومعارضاً، هذا إضافة للجوع الغفيرة التي شهدت أيام التأبين. المشهد الثاني تماسك أفراد أسرته رجالاً ونساءً وصبر قيادات حزب المؤتمر الشعبي وتناولز شهد الحدث الأليم تغطية وسائل من وسائل الإعلام القومية والعالمية المرئية والمسموعة والمكتوبة، إضافة إلى تناول سيرة الراحل ومشاهد من حياته في وسائط التواصل الأخرى، مدحاً أو قدحاً. المشهد الثالث تألمت جداً للشامتين على هذا الحدث الجلل خاصة ما دار من بعض الأطباء بشأن حالة الشيخ الصحية عندما كان يحتضر في سلوك يتنافى وا×لاقيات المهنة وطبع الإنسان السوي. وليحكم القاريء بعد قراءة الحوار القصير: الأول: خلي يقشطوهو أتروبين "الضمير راجع للشيخ المسجى على فراش الموت"، شخصياً ما عارف الأتروبين ده شنو دواء أم سم ليعجل برحيل الشيخ. الثاني: أنا شفتو في العناية قبل ساعة، الزول ده لسه في العناية المركزة وحالته كريتيكال نسأل الله له الرحمة والشفاء وبصراحة ما أظن يكمل يومين كاملين. الأول: هههههه، طمني الله يطمنك.(لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لا شماتة. على ماذا تريد أن يطمنوك يا ......) الثالث: عقبال الباقين. الثاني: إتعمل ليهو إنعاش 3 مرات وآخرهامن نصف ساعة. الفهم شنو. هل أمثال هؤلاء ياتمنهم المريض على أسراره؟ أين أخلاقيات وأدبيات المهنة؟ أين الشهامة والرجولة. طالما تم التوصل إليهم فيتوقع أن تتم محاسيتهم من الجهات التابعن لها وخاصة المجلس الطبي السوداني الذي ينظم المهن الطبية. المشهد الرابع فيديو تناولته وسائل التواصل الإجتماعي يوضح شخص يعتلي سطح إحدى المباني مهدداً بالإنتحار إذا لم يحضر والي الخرطوم لسماعه وأسفل يشاهد عدد من رجال الشرطة بزيهم الرسمي ومعهم مجموعة من المواطنين حاولوا وضع سلم للصعود للشخص الذي حاول الإنتحار ولكنه كان يمسك بشيء في يده ربما حجراً كبيراً مهدداً بضرب من يحاول الصعود إليه. ويبدو أن الشرطة تراجعت عن هذه المحاولة وسحبت السلم. في هذا الأثناء يشاهد منظر ثلاثة أشخاص يتسللون من خلف الشخص أحدهم بزي الشرطة والآخران بالزي المدني يبدو أنهما من رجال الأمن. في حركة مفاجأة حاول أحد الذين صعدوا المبنى الإمساك والسيطرة على الشخص الذي حاول الإنتحار. وللمفاجأة تم المقاومة وحصل صراع سقط على أثره الإثنان ويقال أن الشخص الذي حاول الإنقاذ سقط ميتاً بينما نجا المهدد بالإنتحار ولا أدري صحة خبر وفاة منسوب الأمن كما أشار الفيديو. له الرحمة والمغفرة فهاكذا الموت أقرب إلينا من حبل الوريد. المشهد الخامس المحزن عدم التصرف السليم ممن حاولوا إثناء ذلك الشخص عن رأيه في الإنتحار. شاهدت عشرات من مثل هذا الحالات في دول العالم المتحضر. كان يجب التحوط لأسوء السيناريوهات وعمل كل الإحتياطات اللازمة. كان يجب إحضار مقربين جداً لذلك الشخص، أو إحضار خبير إجتماعي أو نفسي ولماذا لا يجاب لطلبه بإخطار الوالي وحضوره إن سمحت ظروفه طالما الأمر يتعلق بإنقاذ روح من الهلاك وما أعتقد أن الوالي كان سيمانع. أهم شيء كان يجب عمل تدابير تضمن سلامة ذلك الشخص أو سلامة من يغمر بالصعود إليه وذلك بوضح شبح واقي حول المبنى تمنع إرتضاض الجسم بالأرض الصلبة في حالة السوط أو نسر إسفنج حول المبنى، مع ضرورة الرهان على عامل الزمان ومحاولة جرجرة ذلك الشخص ومحاورته والحديث إليه مهما طالت الساعات. بسبب عدم أخذ هذه التحوطات أزهقت روح كريمة وجريئة ضحت بروحها لتنقذ روحاً أخرى. المشهد الأخير هو عدم حضور الإمام الصادق المهدي تشييع رفيق دربه ورفيق حياة شقيقته، شخصياً بعد سماع نبأ رحيل الشخ الترابي بتلك الصورة المفاجئة توقعت كما توقع الكثيرون وبنسبة 100 % إنتهاز الإمام لذلك الظرف والحضور ليكون أول المشيعين وليبدأ بعودته صفحة جديدة. خابت كل التوقعات وكثرت التفسيرات لعدم حضور الإمام ولم تشفع للإمام التعزية المؤثرة التي أرسلها. هل كان الإمام يتوقع إعتقاله؟ لا أعتقد بأن النظام مهما بلغت عدم رضاه لمواقف المهدي أن يعتقله في مثل هذه الظروف، لأن ذلك سيحسب عليه حتماً. مهما كانت الأسباب والمخاوف يعتقد الكثيرون أن الظرف كان مواتياً ومناسباً جداً لعودة الإمام. سال مداد كثير خلال الأيام الماضية تعدد مآثر ومواقف الشيخ الترابي، وهو الآن بين يدي رب العزة وملك الملوك وصاحب القوة والجبروت، إن شاء عذبه وإن شاء تجاوز عن سيئاته وأدخله أعلى جناته. سلام عليه في الأولين وسلام عليه في الآخرين وسلام عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين. مع كمال عمر – الأمين السياسي وفد منبر جامعة الخرطوم للحوار والسياسات مع قيادات المؤتمر الشعبي بمنزل الدكتور/ الترابي د/ بشير محمد آدم - جامعة الخرطوم [email protected]