وكم هي المسافة مابين الشوق واللقيا حتي ينتمي اليها عباس عمرا من الغناء ؟ وكم يزن الحنين في اقاصي القلب حتي يبعثر في الشرايين كريات الشوق الحمراء ؟ وكيف يستمد عباس عثمان هذا الكم من الحنيين المنتمي من سنام الذكريات وتلافيف الشوق لامكنة تسكنه حيث يرحل او كما يقول في احدي اغنياته ( نوبه جورون اقرا بالونا منجنا ) دائما ما كنت احرص علي تحريض الراحل محمد مختار عبدون للحديث عن زملائه المبدعيين وكنت استمتع جدا بحديثه الثر عن عباس عثمان اذكر ذات مرة عندما قال لي مختار ومن غير عباس يقول ( إن اوون قارا نجي اليلوق اولي؟ ) ومحمد مختار كان يعلم مدي اعجابي بكم الاسئلة التي يتسم بها الغناء النوبي الاسئلة التي ليست للاجابة . وهنا لابد ان نشير الي ان الاستاذ محمد ابراهيم كبوش من اكثر المبدعين طرحا لتلك الاسئلة وذلك امر ربما سنفرد له مساحة اخري لاحقا . وبالعودة لعباس وسؤاله اعتقد جازما ان عباس عثمان لم يطرح هذا السؤال الا منتميا لاقصي اقاصي الحنين واعمق اعماق الشوق الذي يعتري مجمل تجربته الابداعية . ولعباس مقدرة خرافية في الرسم بالكلمات وتقديم لوحة متكاملة بزمانها ومكانها وشخوصها وذلك ما يتمظهر في اعمال مثل ( وياوو فاجا نويكي) و( بلي اسادتون) والاخيره تعيدني الي (عبود) في اوائل التسعينيات وتحديدا حيث كانت الاغنية هي ( بلي باسكين نوقدو ) علي قول استاذنا كبوش, فكانت ( بلي اسادتون ) هي عروس الاغنيات حينها وسيطرت الاغنية دهرا من الزمان علي المشهد الغنائي النوبي في افراح (نوبيي السكوت) ومسارحهم وجلساتهم الفنية. ولعباس نمط غنائي قل ان يخرج من اطاره العام ودائما يتواجد متخندقا فيه وان كان ذلك ياتي سلبا علي مجمل التجربة لكن الجانب الممتلئ من كوب التجربه ان عباس استطاع ان يخندق المتلقي بجانبه, او فلنقل ان المتلقي وجد ذاته متخندقا مع عباس في ذات الغنائية ملتفا حولها منتميا اليها لا مباليا بالاطار النمطي لمدرسته الغنائية. ولعباس مساحات شاسعة للتنقل بين الشخوص في نصه الابداعي وللحركة السلسة ما بين الضمائر ويظهر ذلك جليا في اعمال مثل ( مسكاقونا ) او ( إليلينا ولولنا ) لدرجة تصل تمرده علي قواعد اللغة النوبية وعدم الالتزام بها حينا . ظًلم عباس كتيرا وظلم نفسه اكثر بغيابه عن المشهد الغنائي لفترات طويلة وظني ان قراره بحظر ترديد اغنياته أتي خصما علي تجربته فمن الواضح انه لم ياتي لمسوغات فنية ومع انني لم اطلع علي شروط العقد الذي طرحه عباس لتقديم اعماله لكن نتائج ذلك العقد جاءت سلبية فمجرد الاطلاع علي تجربة او تجربتين من تجارب المغنيين الذين حظوا بحق ترديد اغنياته تكفي لتقيم تجربة الحظر من جانبها الفني , ومع انني ميال للمسآئل المتعلقة بالملكية الفكرية ومؤمن بها تماما لكنني اعتقد بالمقابل ان اي حراك حقوقي في ذات الطريق يجب ان ياتي في تناغم تام بين الجوانب الفنية والحقوق المادية وذلك ما لم ينسحب علي حراك عباس عثمان الحقوقي الذي اتاح لانصاف المبدعين بترديد اعماله وغيب اخرين كانوا ينتمون لمدرسة عباس وجدانيا بعيدا عن اي دوافع للكسب مادي . واتفقنا ام اختلفنا مع عباس عثمان في خطوته الاخيرة سيظل عباس احد اشهق القامات النوبية وستظل اعماله ارثا غنائيا لاجيال قادمة وسيظل هو الفنان المحتشد بالحنين والموغل في تراتيل الروح والمنتمي لأمكنة وازمنة تسكننا ونسكنها . [email protected]