السينما الهندية التي كانت تأسرنا عبر الشاشة بجمال الطبيعة وملاحة الحسان ووسامة الأبطال الشبان وحتى الشيوخ والنساء المتقدمات في السن وهن لا زلن يحتفظن بملامح من حسنٍ داهمته خطوط الزمن الخؤون ..فتلك الأفلام التي كنا نحفظ غناءها ونتسقط ترجمته على الشريط حبا في المعاني التي سكنت خيالنا طويلا .. لم تعكس لنا إلا جوانبا يسيرة من ذلك العالم الكبير ..إذا ما قدر لك أن تزوره ستكتشف أنها أي تلك الملامح السينمائية لا تمثل إلا زاوية ضيقة من جغرافيا وديمغرافيا ذلك البلد المحير في كل شي ! فإذا ما مخرت عباب شوارع مومبي العاصمة الإقتصادية والتجارية سيساورك الإعتقاد أنك لن ترى مدينة أخرى بذلك الإزدحام المذهل في كل شي .. الناس والحديد بكافة أنواعه و الأسواق التي يبدو لك أنها قيامة الدنيا ..لكن ما ستراه في دلهي العاصمةالإتحادية سيحفزك لمفاجأة أكبر تنتظرك في عالم آخر إسمه مدراس في الجنوب وهي عاصمة ولاية تاميل نادو ..! قلت في نفسي من هو ذلك الحاكم الذي يدير هذه المدينة الدولة التي يؤمها في سحابة نهارها أرتال من البشر يقاربون سكان السودان بحالهم .. ولكن ما أن يرخي الليل سدوله حتى تبدأ هذه المدينة تدفع بجل أولئك الى جوف القطارات وتبدأ السكينة تلفها وهي تحتضن بقية ساكنيها الذين يتوزعون على دور السينما والتي تتوزع بمعدل كل ثلاث أو أربع بنايات لفرط عشق هذا الشعب للفن السابع .. أو أن البقية قد ركنت الى مساكنها التي تتفاوت ما بين قصور المهراجات المدهشة و فلل نجوم السينما الأنيقة وبيوت عامة الناس بينما تاوي أنابيب الصرف الصحي الضخمة التي ترقد في جوانب طرقات أطراف المدينة خالية من محتوياتها ألافا ممن لا مأوى لهم .. ثم تبدأ رشاشات السيارات الضخمة عند منتصف الليل في غسل تلك الشوارع المجهدة من عناء الخطى و سخونة الإطارات ! لا نفايات تلفت النظر ولاأزمة في الخبز ولا الحليب ولا الأرز ملك المائدة هناك .. لازحام في المواصلات .. فالكل يقف في صفوف ينتظر دوره في ركوب الوسيلة التي يستطيع اليها سبيلا .. وهي تأتي تباعا في دقة مواعيد لا تتبدل .. مثلما مواقيت قطاراتهم التي يحاسب المسئؤلون عن حركتها إذا ما تأخرت لبضع دقائق .. وهي تتحرك من محطات ضخمة الواحدة منها بحجم عشرة ميادين كرة ! هم أناس حافظوا على إرث النظام الإنجليزي الذي أستعبدهم أهله ولكنهم حرروهم من ثقافة تخلف العالم الثالث الذي يحتقر النظام ! كان كبارنا يقولون ليت المستعمر قد مد بقاءه عندنا قليلا لكنا تعلمنا منه كيف نحافظ على منجزاته وليس بالضرورة أن نضيف عليها طوبة أخرى .. فقط يكفينا أن نتحلى بثقافة الإنضباط في العمل والدقة في المواعيد ! الهنود الآن مكتفين ذاتيا في كل شي لانهم وظفوا العلم لبناء الحياة .. ولديهم صناعاتهم الخاصة التي يستفيد منها من يخيط ثوبٍ مزقه الفقر بإبرة صنعت في الهند أو من يملك القدرة على شراء ما يرفع قدمه متدرجا من .. البسكليت والركشة الى السيارة .. مثلما هم يصنعون الطائرات التي قسموها وهي تجوب الأجواء الى رحلات داخلية تقوم بها ما تسمى بالخطوط الجوية الهندية وهي تحط في عشرات المطارات المحلية المجهزة بمواصفات دولية.. أما الخطوط الهندية صاحبة الأسطول المهول فإنها تتكفل بالرحلات الخارجية لتقل مغتربي الهند الذين يتوزعون بالملايين في شتى أنحاء العالم ويضخون عشرات المليارات من الدورارات في بطون المصارف الرسمية حيث لاتوجد حاجة لارتيادهم السوق السوداء التي لا تستحق الفجوة مابين سعرها والسعر الرسمي مغامرة ضرب الإقتصاد الوطني ! جواز السفر يصدر للمواطن لمدة عشر سنوات وبرسوم متواضعة ويمكن الحصول عليه من أي مركز جوازات في أيه مدينة صغيرة حيث لا يعرف الناس الطريق الى عاصمة البلاد ولا حتى عواصمالولايات ! فلا زكاة ولا ضرائب على المغترب ولا تأشيرة خروج .. فقط هنالك زيادة في جمارك ما يستجلبوه من الخارج .. ليس من قبيل الهمبتة وإنما تشجيعا للناتج المحلي الذي يغطي حاجة كل الأذواق وبكفاءة وجودة عالية ! نصيحة لولاة ولاياتنا أن يذهبوا في دورة تدريبية عند حكام ولايات الهند .. عسى ولعل أن يعودوا لنا بنفع يعوضنا عن وجودهم بلا فائدة ! [email protected]