نمو الحزب نسمات باردة بدأت تداعب جسد الحزب الشيوعي، أصبح الحديث ممكناً وبصوت مرتفع، ربما أخيراً اهتدى الكثيرون إلى حقيقة أن الصراع الفكري الحُر خير وأبقى، فصار كل بما لديهم فرحين، يعرضون بضاعتهم في هواء الأسافير الطلق وفي الصحف السيارة والملتقيات وما يذكر فيه اسم الحزب، وما يكتبون، كان الحديث محرماً خارج القنوات الحزبية، ولا شيء يمر إلا عبر المواعين الحزبية، لكن فيما يبدو أن المواعين قد ضاقت تماماً وصارت كأنها قد صممت لخدمة تيار معين، وبعد أن كان الرفاق يؤدون صلاتهم سراً، الآن انتقل الكثير منهم إلى صلاة العلن باحثين عن مخرج وعن إجابة عن سؤال "ما العمل"؟. ظل الحزب الشيوعي يستقطب في كل حين مئات والالاف، غير أن لا تأثير كبير للقادمين، كما لا أثر يبدو في خطو الخارجين،وهذا العضوية التي يجتذبها برنامج الحزب وفكره تصطدم بوهن الحياة الحزبية وضعف ديمقراطية التنظيم ولا حلول مطروحة تقوم على بذل فكري من أجل بناء حزبي، وهذه العملية قديمة في الحزب الشيوعي استهلكت منه وقتا كبير وزمن بددته المحاولات غير العلمية، ويضيء الاستاذ عبد الخالق محجوب هذه المسألة عندما أوضح أن عملية بناء التنظيم ظلت دائما عفوية، وأن التجنيد للتنظيم يتم عن طريق المعارف الشخصية والروابط الخاصة، بينما تحتاج مسألة بناء التنظيم تحتاج لأن يتم التعامل معها بعيدا عن قضايا العمل اليومي، وقدمت مقترحات عديدة في الماضي تستهدف أن يتم هذا البناء، وفقا لأسس علمية وأن يكون نمو الحزب وفقا لخطة وبرنامجح معين، ولقد رأينا كيف أن هذا الخلل قد أضر بتجربة الحزب كثيرا وجعله منغلقا، كونه قد ابعد شرط الديمقراطية الحزبية لنمو العضوية، فهذه الديمقراطية الحزبية تسهم كثيرا في نمو الحزب كونها تتيح اصطراع الأفكار وكون أن عضو الحزب لا يجد نفسه خاملا ينحصر دوره في الاندهاش بمقدرات القائد الفذ، ليطال التحجر حتى ذلك القائد الفذ، هذه الحياة الحزبية في فراغها العريض تنتج قيادات متفرغة تمتلك حق توجيه البقية من عضوية الحزب بما أوتيت من الحكمة وفصل الخطاب، والأنكى أن قيادات الحزب تصرح في الصحف التي تمسيها صحف النظام، لكنها لا تستنكف التصريحات فيها وبث الشكوى لها وعبرها، تصريحات تقف في حدود الشكوى والتوصيف، دون أن تكشف هذه القيادات عن خطتها لمواجهة هذا العطب الكبير المسمى بالتحجر الذي تكتفي هذه القيادات بكسل شديد باحالته للظاهرة الستالينية دون أن يبينوا كيف حاصر الجمود جسد الحزب، ومتى بدأت هذه الحالة الكسولة التي غيبت الأذهان وأعلت من الاذعان ماهو دورهم طالما أنهم يقدمون أنفسهم كمفكرين إنابة عن الجميع، ما هو دورهم في خلق عضوية مستنسخة تردد ما يقولون بلا كلل حتى إذا ما مسهم النقد أحال هؤلاء المستنسخون هذا الموقف إلى كونه رجز من عمل الأجهزة الأمنية، هؤلاء لا يفعلون شيء غير أنهم يزينون للقيادات أقوالهم المنفصلة عن أي فعل، يخرقون مبدأ الديمقراطية الحزبية ويشكون من الجمود، يجمدون عقولهم من التفكير الخلاق ويشكون من الظاهرة الستالينية، يفرغون افكار الحزب عن مضامينها ثم يشكون من أن هنالك من يسعى إلى تصفية الحزب الشيوعي، يعلنون تجديد الأفكار الماركسية فيجترون ذات المقولات القديمة التي هي الماركسية في نسختها القديمة، دون اطلاع حقيقي على التجارب الجديدة، ودون الاقتراب من افكار ماركس بغرض محاورتها، وهنا ينكشف عجزهم الفكري، يتكتل بعضهم ليعلن أن هنالك بعض اخر يمارس التكتل. لتكون النتيجة الطبيعية من كل ذلك أن الحزب برمته أصبح بلا فاعلية، أن الجدب قد دمر الحياة الحزبية وحولها لحطام تنعق فيها الأصوات المجترة للأغنيات والأناشيد القديمة الممجدة لماض الحزب العريق دون سؤال عن غياب الأغنيات الجديدة، عن حاضر الحزب وكيفية نهضته، يغرقون في الماضي ويخافون اية صفحة جديدة حتى تلك التي لا تقطع مع الماضي، حتى تلك التي تريد أن تأخذ من الماضي أجابات للحاضر، إن كان حزب ماركسي فإن الماركسية هي قلب كل ماهو جامد، فأين تمثلهم لهذه الماركسية التي أصبحت بفضل تكلسهم شيء في ذاته ولذاته، إن الماركسية طرحت في الأساس كحركة فكرية نقدية وكأداة لتغيير العالم وهي على تناقض مع الاطلاقات الإيديولوجية والشمولية التي تدعي شرح كل شيء، وتدل على حركة الفكر أكثر مما تدل على قوانيين ثابتة، أين الموقف من الماركسية في كتابات هذه القيادات تجاه تجديدها، اين نلمح موقفا إقترب من أفكار ماركس وحاورها، اللهم إلا من كتابات عقيمة تعيد ذات الاطروحات ويطلق عليها تجديدا، إن هذه المحاولات قد توقفت مع عبد الخالق محجوب الذي سار بعيدا عن التعاليم الجاهزة في نسختها السوفييتية وكان يحذر كثيرا من السير في هذا الطريق، ومن نفض الكتب القديمة ومن أن تتحول أفكار ماركس إلى إيديولوجية جامدة، وذهب عبد الخالق إلى أن النظرية الماركسية- تلك النظرية السياسية التي نشأت خلال تطور العلم والتي تقوم على أساس اعتبار السياسة والنضال من أجل الأهداف السياسية علما يخضع للتحليل. ولقد تعرضنا فيما سبق الى محاولات عبد الخالق محجوب ورفاقه في الحيلولة دون أن يتحول الحزب الى مجرد تجمع ايديولوجي من خلال عملية التجديد المستمر من خلال الانعتاق من آثار التجربة السوفييتية وكذلك بالإشارة إلى مواقع الخلل حتى لا يصبح الحزب حزبا دوغمائيا يصعب معه استلهام الماركسية، كما هو حال الاحزاب الشيوعية التي تبنت القول الماركسي الذي بددته الدوغمائية وعلى الرغم من أن رياح التغيير تهب نحو الحزب الشيوعي إلا أنه سيكون التغيير الصعب ، فعلى الرغم من الحاجة الماسة لهذا التغيير بهدف نفخ الروح في جسد الحزب ، لكن فيما يبدو أن سنوات مرحلة "الحفاظ على جسد الحزب قد ألقت بظلال قاتمة على الحياة الحزبية داخل الحزب الشيوعي فقيادة الحزب لم تكتف بفشلها في هذه المهمة وفي مهمة فتح نوافذ الحزب لاستقبال روح جديدة يكون الصراع الفكري خلالها هو المحرك الحقيقي للحزب ، لم تكتف قيادة الحزب بذلك ولكن، وكما كررنا مرارا ،نجحت في استنساخ شباب على شاكلتها ، أصبحت نسخا صغيرة من تلك القيادات تحمل الطرق القديمة ذاتها في التفكير لتصبح مهمة التغيير مهمة بطيئة جدا ومخيفة جدا ، فهولاء المستنسخون وعلى خطا تلك القيادات أو مجموعة المتفرغين يخشون كل جديد بشكل أقرب للخوف المرضي من عملية التغيير "نيوفوبيا" لقد كان لهذه الفقر المعرفي بالماركسة في الحزب الشيوعي نتائج مباشرة على العمل القيادة والعمل الجماهيري، لقد أقر عبد الخالق في السابق بفقر الحزب الشيوعي بالمعرفة الماركسية لأسباب عدة، اتينا على ذكرها لكن هذا الفقر قد استمر في فهم الماركسية ودراستها كما أشرنا حتى إلى مرحلة ما بعد عبد الخالق محجوب، ولئن كان عبد الخالق قد دعا إلى السير بعيدا عن النموذج الماركسي السوفييتي فإن المفارقة الغريبة أن يبرز "مفكرو" الحزب اليوم ليستدعوا ذات النموذج السوفيتي، وهذا يدل على فقر عظيم في المعرفة بالماركسية، وهذا ايضا يقود إلى أن الذين يسعون إلى تصفية الحزب ليس هم فقط من يقولون بسقوط الماركسية، ولكنهم كذلك المحافظون الذين حولوا الماركسية إلى دين، وحولوا الحزب الى معبد الإختراق الكبير يشكوا قادة الحزب من أنه قد أصبح مخترقا، وهذا موجود في تصريحات متوفرة كان اخرها على لسان مسئوله التنظيمي، ولقد أتينا فيما سبق من عرض على أن هذه العلمية قديمة في الحزب الشيوعي، وبينا دور المخابرات في تخريب الحياة الحزبية وكذلك دور الأجهزة الأمنية التي اخترقت الحزب باعتراق قياداته، ونتوقف هنا عند حادثة كبيرة سيكون لها ما بعدها، وهي حادثة حصول جهاز الأمن على "فلاش" يحتوي على كل أسرار الحزب، وهذه المسألة نقلت كل ما يتعلق بالحزب الى جهاز الأمن، وهي العملية التي لم يحاسب حتى الان المسئول عنها، ولقد واجهنا المسئول التنظيمي للحزب علي الكنين بسؤال عن هذه الحادثة في لقاء تلفزيوني بقناة أمدرمان فلم ينكرها، ولم يثار حولها تحقيق حتى الان ولم يعاقب المسئول عنها. إن الحادثة تعزز من كون أن الحزب صار مخترقا وأن القيادة عاجزة أمام هذا الاختراق تماما، بالتالي فإن الحزب أمام هذا الواقع سيكون عرضة للهجمات الأمنية على كافة مستوياته، وهذا يتطلب موقف قوي، يتطلب تأجيل كل ما دونه لمواجهته، ولذلك قلنا أن الحديث عن تطبيق اللائحة في وجه مجموعة متكتلة لم يثبت التحقيق الحزبي تكتلها ما هو الا صرف للانظار عن هذه الحادثة، ما حدث لم يكن الا غبار كثيف ليغطي على هذه الحادثة الخطيرة وسنواصل [email protected]