* نصف قرن ينقص قليلاً منذ أن امتدت يد المنون فغيبته؛ لتبدأ رحلة حضوره الأبدية بهذا التراث الذي يمثله "مزيج أدبي" عكس معدنه الذهبي.. وقد ظل مضيئاً بوهج إنساني هو عصارة أشعاره المنوّعة كالوطن، والجميلة كالطبيعة فيه.. ورغم نسيان دوائر كثيرة ذات صلة بالثقافة لهذا الشاعر المجيد والوطني "برتبة فارس!"، إلاّ أن مكانته تعلو لدى من يقتفون أثره الإبداعي و"البطولي" إبان حقبة الاستعمار الانجليزي في السودان. * إنه توفيق صالح جبريل؛ شاعر "الدهليز" فلشدة شغفه بالأدب وعالمه الخلاّب، تحوّل بيته إلى منتدى بهذا الاسم.. كلما جاءت سيرته العطرة اقترنت ب"الدهليز" الذي جمع فأوعى منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، واستمر دفقه على حياة الناس في ذلك الزمان؛ إلى أن اشتد مرض "النقرس" على شاعرنا.. ثم.. توفى في "26 ابريل 1966م". * لقد تجلت عبر ديوانه "أفق وشفق" لمحات عديدة للحال والمكان آنذاك، كانت كافية لتكون شاهداً على أصالته، وعزة مقامه.. فهو مكثار في ذِكر الآخرين ذوي الشمائل الطيبة؛ عبر قصائد حملت اسماء شخصيات ومناسبات.. كما عكست هذه الأشعار مأساته مع الداء العضال الذي استحكم في عظامه.. ففي العام 1955 والسقم اللعين ينهش خلاياه؛ نظم قصيده "أماني العيد" التي استهلها بهذا الحزن: قد أقبل العيد وماذا يبتغى من مُقعدِ؟ من مثقل الرجلين والكاهل؛ معروق اليدِ..! * من ذات النبع الشجي هرولت الكلمات وتوفيق الشاعر المرهف المكلوم يرثي شقيته في العام 1957م.. لقد تجلت موهبته وحسه الإنساني في وصف "مصيبة" الفقد: أطل الخطب وانفض الوعيدُ وبيتك هل يهلُّ عليه عيدُ؟ زمانكِ كان لي عيداً سعيداً وبَعدَكِ ليس لي يوم سعيد سقيت القبر لو جادت دموعي ولكن المدامع لا تجودُ * ما تقدّم أبيات من قصيدة طويلة حملت عنوان "العطف الأخير" صوَّر فيها مشاهد مؤثرة تنضح عذوبة وألماً؛ ودِقة في وصف ذلك اليوم من شهر رمضان، وقد فقد الشاعر فيه الشقيقة "الغالية" وتداعى له الشعر لحظة سير الموكب بالنعش: وما هذي الحياة بها حياة ولا هذا الوجود له وجودُ تعالى النعش بين يدى كرام تعالوا، فاشرأب له الحشود وسار الصائمون به خفافاً تحفّ به المهابة والسعود جلال الموت جلله بهاء جهاد الصوم والسعي الحميدُ ورقّ الصيف حيث بدا رخياً عليلاً، والنسيم لنا يجود كخلقكِ بل كبذلكِ في سخاءٍ وأُنسكِ والزمان كما تريدُ كرأيكِ واضحاً سهلاً عتيداً وبعضُ السهلِ ممتنع عنيدُ ألا ويح الذي يبغى خلوداً بدارٍ كل ما فيها يبيدُ إذا كان الثواء بها حميداً لما سئم البقاء بها (لبيدُ)! فلله البقاء وكل جسم يعود ثرى، وللروحِ الخلودُ. * رغم تقلبات حياته في نير المكان والزمان، واحتشاد روحه بالهموم "الوطنية" والحياتية إبان حقبة الإستعمار في السودان، إلا أن ربّة الشعر لدى الثائر توفيق صالح جبريل داعبتنا بأشعار تهز الوجدان بحنو.. رواها فيض العاطفة.. ومن قصيدة "الحب والغناء" بتنويعات قافيتها؛ نستشف أثر الصبابة: قبلات شوق أرّقتني... قلت ذا عبثٌ يزول وحسبتها كالورد... بعد القطف يدركه الذبول رشق الهوى قلبي فضرّجه... وفاض على الشعور وبدت على الروح الكآبة... بعد هزات السرور خلجات نفسٍ جزلةٍ... هدأت فحركها السكون وسمَت بنفسي عزلة... بعثت خفايات الشجون أرسلتُ حبي صادقاً... وخشيت صولة عَضْبهِ (1) وصبا فؤادي خافقاً.... فكأنها تلهو بهِ مالي أحاول صدها... وتعود ذكراها إلىْ وتلوح لي وأردّها... فتطلُّ من نفسي علىْ غرّد بعودك ها هي... الأشجار تنصت والمياه واعطف عليه فإن في أنغامه معنى الحياه! ولّت سعاد وايقظت شوقي... ونامت ناعمهْ! والطيف دان وما دنت ... ليست سعاد بعالمهْ! يا قلب مالك والهوى؟... فلقد أضر بك الأرق قد هام قبلك وارعوى... قوم أضلّهم الحدق * في أثناء مرضه الذي واجهه بصبر وثبات، أبدع شاعرنا توفيق صالح جبريل بقصائد تمثل قمة في اليقين والرضاء بقدر الله؛ ومقابلته بنفس أبية مرتقية بالشكر؛ التسليم؛ الشجاعة... يقول في قصيدة ابتهال: فشكراً إلهي ما ألمّت ملمة وذو العزم يلقى الكريهة بالشكرِ وكن لي أنيساً في انعزالي ووحدتي وزدني إحساساً يرق به شعري وزدني قنوعاً بالذي لي أردته ولا تبقِ إلاّ ما أشد به أزري لئن شئت خذني وإن شئت ابقني عليلاً، لكي ألقى مزيداً من الأجر فلستُ بشاكٍ ما لقيت من الضنى وفي الصَّهرِ طهر للنفوسِ من الضرِ ومالي والأيام أن تقسَ أو تلِن وترهبني بالعفِّ والنظر الشذرِ حياة كفاف كل ذلك مطلبي على أنك المُهدى ندى ليس بالنذرِ فحسب الفتى عيش كريم وصحبة كرام، وسعى أن يبيت بلا وزرِ * يا له من "توفيق"..! فالمتأمل للقصيدة يلقها رعّاشة بكل رفيع يسمو على المعاني..! إذ تلتمس الحكمة فيها مشرّبة بطهر النفس المطمئنة إلى المآل، المشرئبة إلى الجلال، واللا مبالية بقيلٍ وقال..! ففي القصيدة إشارة خافتة إلى الضعف البشري، ممثلاً في جهال القوم الذين "يعافون" كل مريض، وتحملهم هشاشة العقل للنظر إليه "شذراً"..! لكن الكرام في الجهة المقابلة يغنون الشاعر عن ما سواهم.. فانظروا إلى "بياض الطوية" وهو يسعى أن ينام بلا وزر..! * ومن "أوزار الدنيا" على الشاعر أن يلقى عنت السجون.. وهو الفارس الثائر الذي لا يخشى في سبيل عزة بلاده لومة لائم..! لقد كان زمن الاستعمار الانجليزي يلقي بثقله في ذاته.. وكانت له ذكريات مرة وعذابات.. يقول في اجترار موحي بالشجن: أين الصبا وعباب النيل يسعدنا هوناً، وأين صباباتي وسمّاري وأين من وثْبَاتي في مناكبها سكينتي وثَبَاتي خلف أسوارِ ما أجمل العيش والدنيا محببة والروح فيها؛ تجلى المبدع الباري * أواب إلى بارِيه.. مثلما هو أواب إلى منابع الحُسن الذي أفنى من ذاته الكثير..! ............. هامش (1) العَضب: السيف القاطع. (الجريدة)