لزينب ربع ما يجيبك محول عفا بعد ما قد كان بالغيد يأهل وأقفر من بيض حسان نواعم أوانس من أخلاقهنّ التدلل وزينب دعجاء العيون غريرة لها لحظات تسترق وتقتل خدلجة الساقين خمصانة الحشا لها شعر ضاف وخصر مبتل وخد أسيل فوق جيد غزالة وردف إذا قامت ينوء ويثقل إذا ابتسمت فالأقحوانة نوّرت وإن خطرت فالريم في البيد يجفل لا تظن أنّ اللاميّة أعلاه تنتمي إلى عصر المعلقات والمذهّبات، أو أنّها قيلت ذات نهار قائظ في خيمة النابغة الذبياني بأنحاء سوق عكاظ.. بل هي سودانية قحة، نظمها قائل النشيد الوطني أحمد محمد صالح 1973-1894م في مطلع قصيدة يمتدح فيها السيد عبد الرحمن المهدي. وإن علمنا أن صالح والملقب بالأستاذ الشاعر من رواد مدرسة الإحياء والبعث الملتزمة بنظم الشعر على نهج العصر الجاهلي وحتى العصر العباسي فلا غرابة في بكائه الأطلال عند عتبات القصيدة قبل أن يشرع وفق منهج المعلقات في غرض النسيب والغزّل في عيون زينب -الدعجاء- شديدة سواد العينين، وبلحاظها تضرب في أعشار القلب والروح، حيث يذكرنا قوله (وزينب دعجاء العيون غريرة.. لها لحظات تسترق وتقتل) بعيون صاحبة جرير التي تودي بمصارع العقلاء: إنّ العيون التي في طرفها حور قتلتنا ثم لم يحين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا ويذكر أيضًا بقول صفي الدين الحلي: كفي القتال وفكي قيد أسراك يكفيك ما فعلت بالناس عيناك كلت لحاظك مما قد فتكت بنا فمن ترى في دم العشاق أفتاك ويبحر الأستاذ الشاعر فراسخ بعيدة في وصف جسد زينب وأنّها "خدلّجة الساقين" بتشديد اللام: وهي المرأة الممتلئة الساقين، وهذا يذكرنا بوصف عمر بن أبي ربيعة: خَدَلَّجَة إذا انصرفت رأيت وشاحها قلقا وساقا تملأ الخُلخالَ فيه تراه مُختَنقا ومثلما كلف العرب الأوائل بالخصر الضّامر والحزام الأنثوي الفاصل بين عقل الاشتهاء واشتهاء العقل، وصف شاعرنا زينبته بأنّها "خمصانة الحشا لها شعر ضاف وخصر مبتل".. ومعنى خمص خلا وضمر، ويقال: خمص الجوع فلاناً: أضعفه وأدخل بطنه في جوفه ويعني هنا أنّها ضامرة البطن وذات خصر مبتل، ومبتل هذه تعني منقطع، واعتقد أنّ المقصود بذلك معنى البَتُولُ من النساء، أي العذراء المنقطعة عن الرجال. ويمضي صالح واصفا زينب بأنّها ذات "خد أسيل فوق جيد غزالة وردف إذا قامت ينوء ويثقل" ويقصد أن خدها أسيل أي ناعم، ومن ذلك قول امرئ القيس: وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش إذا هي نَصّته ولا بمُعَطل أحب العرب الأرداف الضخمة فشبّهوها بكثيب الرمل، والموج، ويشبه ردفا زينب التي تنوء بهما من شدة كبرهما ردفي امرأة المتوكل الليثي والتي: إذا تمشي تأود جانباها وكاد الخصر ينخزل انخزالا تنوء بها روادفها إذا ما وشاحها على المتنين جالا وعلى منوال أبو داؤود الإيادي أوَّل من شبَّه الثغر بالأقحوان، والنابغة والأعشى، الذي قال: "وشتيتٍ كالأقحوان جلاه الطَّلُّ فيه عذوبة واتِّساقُ" نسج شاعرنا بيت "إذا ابتسمت فالأقحوانة نوّرت" وهنا تجسيم للفم مجازًا بأنّه يشبه زهرة الأقحوان المتفتحة. عاش شاعرنا في حقبة الاستعمار الإنجليزي المصري، وعاصر عددًا من الشعراء الأفذاذ أمثال عبد الله محمد عمر البنا، وعبدالله عبدالرحمن الضرير؛ وما يؤسف له أن شعره لم يجد حظه من البحث والتنقيب، وربما لا تتعدى معرفة بعضهم أنه هو شاعر النشيد الوطني وأنّه اختير عضوًا بمجلس السيادة عند استقلال السودان عام 1956. وأورد الأستاذ حسن نجيلة في كتابه "ملامح من المجتمع السوداني" أن علي الجارم زار السودان سنة 1937، واحتفى الشعراء والأدباء بمقدمه في فندق (الجراند أوتيل) وألقى قصيدة في تلك الليلة بمناسبة عيد جلوس الملك فاروق كتب فيها: عيد الجلاء صدقت وعدك بالمنى وصدقت وعدي علمت طير الواديين فغردت بحنين وجدي ونظمت فيك فرائدا كانت لجيدك خير عقد عيد الجلوس وكم حوت ذكراك من عز ومجد فاروق يا أس الرجاء وملتقى الركن الأسد جملت بالقول السديد وساطع الرأي الأسد وكان شاعرنا قد اطلع على قصيدة الجارم قبل القائها في الحفل، فكتب مجاريا على منوالها: أخلفت يا حسناء وعدى وجفوتني ومنعت رفدي فينوس يا رمز الجمال ومتعة الأيام عندي لما جلوك على الملأ وتخيروا الخطاب بعدي هرعوا إليك جماعة وبقيت مثل السيف وحدي استنجز الوعد النسيم وأسأل الركبان جهدي ونشرت جريدة "النيل" في اليوم التالي قصيدة أحمد محمد صالح كاملة بجانب قصيدة علي الجارم، فتناقلها الأدباء بشغف ورددوا أبياتها في إعجاب، واحتدم النقاش بين النقاد حول أي القصيدتين أروع؛ الجارم أم أحمد محمد صالح.. وينقسم ديوان شعره "مع الأحرار" لستة أقسام بعضها بحسب أغراض الشعر؛ فهناك المدح، الرثاء، الغزل، الاجتماعيات، الوطنيات، وباب بعنوان "عروبة" وهذا الأخير يضم سبع قصائد هي: (فلسطين الجريحة) (دمشق مهد الحرية) (إلى وزراء الخارجية العرب) و(تحية العام الهجري) و(إلى العرب في ذكرى الهجرة) و(إلى الرؤساء في الخرطوم) و(بورسعيد.. إلى العرب البواسل) ونستشف من تلك العناوين أن صالح كان مهمومًا بقضايا أمته ومتماهيا معها؛ ففي مؤتمر اللاءات العربية الشهير بالخرطوم 1967 بعد النكسة ألقى صالح قصيدة في حضور الرؤساء العرب قال فيها: مرحبًا بالشموس من عبد شمس قد حللتم من داركم في الصميم يا بني عمنا ويا قادة الزحف ترضون صفقة المظلوم ونظم صالح قصيدة بمناسبة اتفاقية منح السودانيين حق تقرير مصير بلادهم كان مطلعها: يا شاعر النيل لاح العيد وابتسما فحي غُرّته واستنهض الهمما واستوحِه من بنات الشعر أحفلها بكل معنى طريف رقّ وانسجما [email protected]