في العادة لا أفضل أن أقود سيارة في شوارع الخرطوم ، حتى بت مقتنعاً بأن قيادة السيارة في شوارع الخرطوم لشخص في مثل حالي يعيش خارج السودان ويأتى بعد طول غياب ، تكون مغامرة أو ربما هي " شروع في القتل " إما قاتلاً أو مقتولاً كما يقولون ! وأسباب ذلك كثيرة : أولها أن هذه "الدواب المصنوعة " التى تئن من وطأة الزحف والإنتظار الخانق في شوارع الخرطوم لساعات طويلة ومضجرة قبل أن تصل الي مقاصدها ، لم يخضع الغالب منها للفحص الفنى للتأكد من إستيفائها الشروط والضوابط الفنية التى ترخصها للسير في الطرقات . ثانياً :ماذا عن من يسوقونها ! من أدرانا عما إن كانوا فعلاً خضعوا للإختبارات اللازمة للحصول علي رخصة قيادة السيارات أم لا ! في خضم هذه الفوضى والمحسوبية التى جعلت من الدولة إما غائبة أو سائبة ! وكم من بينهم ياتري من هم دون السن القانونية من أبناء الذوات والنخب النافذة الذين يقال أن الرخص تأتيهم في مكانهم علي طبق من " واسطة " ! ثالثاً : هذا الكم المهول من السيارات الصغيرة والشاحنات والبصات والحفلات والأمجاد والركشات وعربات الكارو فضلاً عن السادة المشاة من الجنسين و الدواب الحية من حمير وأغنام وكلاب ضاله، كلها مجتمعة تتقاسم السير في الشارع العام جنباً الي جنب في فوضى خلاقة ! تحتاج الي مهارة خاصة في تفادي عواقبهأ ، لاسيما عندما يكون هذا الشارع هو" الطريق السريع " ! رغم كل ذلك لابد أن نشيد بدور شرطة المرور وما تبذله من جهد جهيد في مجال التوعية والثقافة المرورية عبر التلفزيون خاصة عندما نراهم في عرض الشارع يوقفون المارة يسألونهم للتأكد من مدي إلتزامهم بقواعد قانون السير و المرور حفاظاً علي سلامتهم وسلامة المارة من حولهم ، إلا أن قضية المرور لا تكفيها جهود إدارة المرور وحدها ، لأنها قضية المجتمع بكل فئاته فتحتاج الي حملات توعية ُتحشد لها المدرسة والمسجد وكافة وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى حتى تأتى جهود شرطة المرور أُكلها . في مثل حالي هذا فلابد من اللجوء الي تاكسيات " اللوموزين " ولكنها غير متوفرة دائماً فأستعيض عنها بسيارات "الأمجاد " ، والملاحظ أن كل سائقي الأمجاد الذين تعاملت معهم كانوا من خريجي الجامعات وفي الغالب الكليات التطبيقية ،عدا أحدهم كان مديرا لفرع أحد البنوك المعروفة وآخر وكيلا سابقاً لمصلحة حكومية هامة . في تقاطع شارع الراحل الطيب صالح مع إمتداد ناصر في المكان الذي أقام فيه صديقنا عثمان محمد خير أول "سيوبر ماركت " في العاصمة وسماه بأسمه "أوماك " كنت أقف حيث أسكن في حي الصفا ، الذي كان نظام " مايو " قد خصصه لنخبته الحاكمة من االعسكيريين وغيرهم . حى هادي وجميل فيه ملامح الأحياء الشعبية و الأحياء الراقية في آن ، إن كان في الخرطوم أحياء راقية حسب معايير الأحياء الراقية كما هي في مدن الدنيا الأخري ، مثل إشتراط النظافة و صحة البيئة وتوفر المساحات الخضراء والميادين لممارسة الرياضة بأنواعها والحدائق العامة والمكتبات والمسابح وغيرها من الخدمات التى بدونها لايكون الحي "راقياً " .أنا هنا لا أقارن بين الأحياء الراقية في باريس أو تورنتو أو أبوظبى بل أستشهد بالأحياء في مدينة الشارقة بالإمارات التى تتوفر في أحيائها الراقية كل ما ذكرت من خدمات .عرفنى سائق الأمجاد بنفسه بأنه خريج جامعة الجزيرة هندسة تقنية معلومات ثم مضي يقول : ظللت عاطلاً لمدة ثلاث سنوات بعد أن تم تعيين زملائنا الذين إنتسبوا للحزب الحاكم – بحكم المصلحة - فقط من اجل الحصول علي عمل وليس عن قناعة بفكره ولاسياساته ! ُكبر الشاب عندي وزاد إحترامي له ، ثم عرفته بشخصى الضعيف وأصبحت بيننا قواسم مشتركة تجاوزت حدود الراكب بسائق عربة الأجرة . بادرته سائلاً عن مبنى ضخم كان منتصباً بالقرب من المكان حيث كنا وكنت الاحظ يوميا أن العمل يجري فيه بهمة تصل حتى ساعات متأخرة من الليل تدل علي أن صاحبه لابد أن يكون من أهل السلطة و السلطة و المال صنوان كما نعرف! حتى ُ يخيل الي من يشاهده أن كل إنتاج مصنعىّ عطبرة وربك من الأسمنت لايكفيه و يقول هل من مزيد ! ضحك ثم قال لي : هل تعرف من يملكه ؟ أجبته بالنفي فقال : ( فلان بن علان ) رجل نافذ ومعروف ، و عندما شعر أن لدي رغبة جامحة فى معرفة المزيد من معالم فساد أخري علي خريطة الفساد المترامية الأطراف علي إمتداد العاصمة ، فأبدي حماسا شديداً لذلك ثم قال : ما رأيك أن أتجه بك مباشرة الى شارع 15 بالعمارات وأثناء مرورنا عبر شارع عبيد ختم ستري قطع الأراضي الباذخة التى يصل سعر القطعة منها المليون دولاراً ! هذه مثلاً تخص (......) وتلك تخص (.......) وكلاهما نافذان ! مازلنا في عرض شارع عبيد ختم و الحديث مايزال للشاب المهندس مشيراً بإصبعه ويقول لي : إنظر لتلك اللافتات هي لسلسلة صيدليات مملوكة لكريمة أحد النافذين الكبار تجدها في كل ركن وزاوية في العاصمة ! وصلنا شارع 15 بالعمارات وبدأ يعدد لي قائلاً : تلك بنايات ( فلان) وخلفها مباشرة بنايات (علان) وكلهم كانوا إما ضباطا أصحاب رتب صغيرة أو موظفين عاديين أو من متوسطى الحال من سائر الناس قبل عام 1989 ! هل لديك مزيداً من الوقت ؟ قلت له كل وقتى مكرس لمعرفة معالم هذا الفساد . قال : ساخرج بك الي الأطراف لتري مجموعة من عمارات فاخرات مملوكات لشخص ما كان نافذا ولم يزل . إنطلقنا بينما الحديث لم ينقطع عن السياحة حول معالم الفساد التى لاتكفيه جولة ولا جولتان حتى وصلنا الي مقصدنا . أصبحنا في مواجهة عمارات شاهقات فارهات، والشارع بدى كأنه مجرور نحوهن جراً ! وهناك نفق يؤدي الي الضفة الأخري من نهر الفساد حيث كان المسجد الأنيق هو الآخر شاهدا علي كل هذا ! أقفلنا عائدين ، قال لي : يوم آخر سأذهب بك الي مدينة خرافية علي اطراف الخرطوم بحري مقامة علي طراز المدن عندكم في الإمارات لتري العجب العجاب يسمونها "النافعاب " تذكرت النافعاب تلك القرية الوادعة عند منحنى النيل قرية صديقنا الطيب عبد الحفيظ والتى مكثت فيها عطلة الربيع مع أسرته في زمان جميل مضى ايام الطلب ولكن شتان بين هذه وتلك ! دعوته أن نتناول الغداء معاً علي طبق من السمك المشوي لنواصل ما إنقطع من الحديث قبل أن نفترق إلا إنه رفض بشدة شاكراً دعوتى قائلاً : أن زوجته وضعت مولودا قبل أيام ولابد أن أكون معها لحظة الغداء فزاد تقديري لهذا الشاب ،وقلت في نفسى : لماذا نعمم أحكامنا السالبة والقاسية أحياناً عندما نتعرض لهؤلاء الشباب بالنقد غير الموضوعي ، دون أن نقف عند مثل هذه النماذج المشّرفة ؟ لماذا نغمط الشباب أشياءهم ! وفيهم كل هذا الكم من صفات النزاهة و الكرامة وتقدير المسؤولية والإصرار علي ممارسة العمل الشريف حتى يكون رزقهم حلالاً !. ما أثلج صدري معرفة سكان العاصمة الدقيقة لمواقع الفساد فيها وإن إختبأت تحت قبة خضراء لمسجد أنيق ، يشهد كل يوم في صلواته الخمس أنه ُبنى من مال الشعب ! شكرته مودعاً علي أمل أن القاه في إجازة قادمة في مدينة " النافعاب " الباذخة وليست قرية " النافعاب " البسيطة الراقدة عند المنحنى من النيل . [email protected]