عند تفكري في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) تساءلت عن المقصود ب "مايحيينا" ورجعت لكتب التفاسير و أغلبها تقول أن المقصود هو "الجهاد" بمعناه الأصغر . لكن إبن كثير في تفسيره يلمس لمسا خفيفا المعني الذي أفهمه عندما يقول "قال البخاري : ( استجيبوا ) أجيبوا ، ( لما يحييكم ) لما يصلحكم . ......." فهمي للأية أنها تقول بأن هنالك قانون إجتماعي إلهي دقيق (مثل القوانين الإلهية الفيزيائية كقانون الجاذبية وغيره) تفاصيل القانون مذكورة في القرآن و تجسده سنة الرسول الفعلية , إتباع هذه التعاليم يجعل حياة الناس و المجتمعات أفضل اذ أن في اتباعه حياة لهم , وعدم اتباع ذلك القانون ينتج عنه ضنك .و مشقة شديدين من أسباب تقدم المجتمعات الغربية أنها عرفت هذا القانون الألهي و طبقت الاجزاء التالية منه بدرجات متفاوتة : 1- العدل ا و المساواة , في القانون , وفي الحقوق و الواجبات بين جميع الافراد بغض النظر عن وضعهم الطبقي أو اثنياتهم.. . 2- المعاملة الطيبة و سن القوانين التي تحمي الشرائح الضعيفة في المجتمع (المعاقين , الايتام, الاطفال, كبار السن) 3- العدل الاجتماعي . يمكنني ذكر عشرات الآيات و الاحاديث التي تدعو للنقاط من 1-3 التي ذكرتها أعلاه . المجتمع الامريكي , وهو المجتمع الغربي الذي أعرفه معرفة جيدة يزدهر فيما يتبع في القانون الالهي و يعاني في الجانب الذي لم يستجب فيه له , فمثلا نجد أنه من أهم مؤشرات إحتمال الفقر و عدم التعليم في أي ولاية/مدينة/أسرة بامريكا - هو نسبة عدد الاطفال المولودين خارج أطار العلاقة الزوجية في تلك البيئة , فكلما كثر عدد الاطفال اللقطاء كلما ارتفعت نسبة الفقر في الاسرة /المدينة/.الولاية . أدناه رابط لبحث نشره معهد دراسات استراتيجية امريكي مشهور بعنوان "الزواج: أعظم أسلحة أمريكا ضد فقر الاطفال " http://www.heritage.org/research/rep...-child-poverty "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" فكما وأن "الحرية" هي أهم قيمة في الفكر الغربي فأنني أزعم هنا بأن "العدل" هو أهم قيمة في الإسلام بعد الإيمان بالله مباشرة , وذلك وفقا للقرآن الكريم و هذه هي أدلتي : هنالك حرمات تدل آيات القرآن بأن الله يغفر لمن يرتكبها في ظروف استثنائية خاصة مثلا : قول كلمة الكفر :( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) اتخاذ الكافرين أولياء : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) أكل المحرم من الطعام : (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) والآية (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) وهنالك آيات تخفف العمل ببعض ألأوامر الالهية الهامة كالصوم و الصلاة عند السفر و عند المرض . ولكن لا توجد أي حالة ولا أي إضطرار , في القرآن الكريم , يبيح الله بموجبه الظلم ولو لطرفة عين. بل وأن الظرف الوحيد الذي يسمح فيه القرآن "بالجهر بالسوء من القول" هو ظرف الظلم . فالمظلوم لديه رخصة حسب الآية الكريمة "لايحب الله الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا" أكبر اثم عند الله هو الشرك و يصف القرآن الشرك بالظلم وهو ضد العدل :"إن الشرك لظلم عظيم" . ونفي الخالق عن نفسه الظلم في عدة آيات بالقرآن و يأمرنا القرآن بالعدل لمن نكره: . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) إذا كان الأمر واضحا لهذه الدرجة , فلماذا نحن هكذا ؟ أكيد أن هنالك خللا ما في فهمنا الجمعي للدين . (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.) الآيتان أعلاه تتحدثان عن القانون الالهي لتغيير المجتمعات وهو قانون صارم مثل القانون الالهي للجاذبية أو قوانين الله للكيمياء والفيزياء . قانون التغيير هذا هو قانون الهي عام لكل البشر(كل الاقوام) وليس خاصا بالمسلمين (أغلب مشاكل المسلمين ناتجة عن كونهم لايؤمنوا بأن سنن الله و قوانينه الاجتماعية تنطبق علي كل الامم , مسلمين و غير مسلمين, وانهم في خضوعهم لتلك القوانين الآلهية يتساوون مع البوذيين , الهندوس , عبدة الثعابين و غيرهم ). أجمل شرح لهذا القانون الالهي وجدته في كتاب "حتي يغيروا مابأنفسهم" للمفكر جودت سعيد حيث يقول: " في الآية تغييرآن , تغيير الله, وتغيير القوم وينبغي أن لا تفوتنا هذه الملاحظة . لأن نص الآية ، على حسب قواعد الإعراب ، أن فاعل التغيير الأول ، المذكور في الآية ، هو الله سبحانه وتعالى ، وفاعل التغيير الثاني ، هم القوم ، أو المجتمع ، وإن كانت القدرة التغييرية الثانية ، هي هبة من الله تعالى للقوم وإقدار منه تعالى للمجتمع على ذلك . وعلينا أن لا ننسى هذا التوزيع في العملية التغييرية ، لأنه كثيراً ما يغيب عنَّا ما يخص الإنسان من التغيير ، ويختلط علينا الأمر ، وهذا الغموض ، يفقد الإنسان ميزته وإيجابيته في عملية التغيير . وإن أي ظن ، أو طمع ، في أن يحدث الله هذا التغيير الذي جعله من خصوصياته – إلا وهو الجانب الذي يتعلق بما بالقوم وليس بما بالنفس –قبل أن يكون القوم هم بأنفسهم قاموا بتغيير ما بأنفسهم .إن هذا الظن ، والإغفال لهذه السنة الدقيقة المحكمة ، يبطل النتائج المترتبة على سنة هذه الآية . في الآية ترتيب بين حدوث التغييرين والتغيير الذي ينبغي أن يحدث أولاً ، هو التغيير الذي جعله الله مهمة القوم وواجبهم ، بأقدار الله تعالى لهم على ذلك . إن حدوث أي تهاون في الخلط بين التغييرين ، وإدخال التغيير الذي يحدثه الله بالتغيير الذي يقوم به القوم ، أو العكس ، يفقد الآية فعاليتها ، وتضيع فائدة السنة الموجودة فيها . والرجاء ، بأن يحدث الله التغيير الذي يخصه ، قبل أن يقوم القوم (المجتمع) بالتغيير الذي خصَّهم الله به ، يكون – هذا النظر – مخالفاً لنص الآية ، وبالتالي إبطالاً لمكانة الإنسان ، وأمانته ، ومسؤوليته ، ولما منحه الله من مقام الخلافة على أرضه . لأن هذا التحديد في مجالات التغيير ، وهذا الترتيب فيما ينبغي أن يحصل أولاً ، وما يحدث تالياً ، هو الذي يضع البشر أمام مسؤولية حوادث التاريخ . ومن هذه النافذة ، يمكن إبصار أثر البشر ، في أحداث التاريخ ومسؤوليتهم إزاءها ." حسين عبدالجليل [email protected]