وماكان/ قيس/ هلكه /هلك /واحد لكنه/ بنيان /قوم / تهدما (عبدة بن الطبيب في رثاء قيس بن عاصم) كنا في قاعة الغزالي السنة الثانية بكلية الاداب جامعة الخرطوم، مزهوين ومتشبثين بأحلام كبيرة ، مضى أسبوعان أو ثلاثة على بداية السمستر لا أذكر على وجه الدقة لكن ما أذكره جيداً أن الاعتذار المتكرر لأستاذ الاعلام الذي لم نره بعد زاد شغفنا بالجلوس الى محاضراته، كنا نسمع حيناً أنه في باريس أو مؤتمر في جنيف وكنَا نتساءل عن هذا الأكاديمي (الرحال) الى أن جلسنا اليه وسرعان ماتحول فضولنا الي شغف بمحاضراته وأحاديثه، صرنا نتلقف أحاديث الصحافة ونظريات الأعلام بتوق الى المعرفة ومحاكاة لتجارب أستاذنا ، ظننا بتجاربنا المتواضعة آنذاك أن كل طالب اعلام مشروع ناجح كحكايات دكتور الطيب حاج عطية الى أن خرجنا الى فضاءات الكلية وحكايات (سيركل ) اداب لنسمع قصص عن (شيخ) الاعلام فأدركنا أن جهد كبير ينتظرنا . خمس سنوات ونحن طلاب لم يفارقنا شغفنا بمحاضراته، يأتي في موعده تماماً و بذات الدقة والالتزام تخرج منه الكلمات مرتبة ومحسوبة ومدهشة دون أن يغيب عنه حرف أو تشرد فكرة ، لم يعرف عنه أنه دخل الى محاضرة مصحوباً بقلمه أو أوراقه، كان يتحدث من العقل ومن المعرفة المتراكمة ومن خبرة في الحديث جعلت الكثير من طلابه يحاكون طريقته وايماءاته ، صاحب مصطلحات تجديدة نكاد نجزم أنها لاتوجد في الكتب وأن (توليفتها) واستخدامها العلمي يعود الى مدرسته، تلك المدرسة الفارهة التي تخرج فيها جميع من التحقوا بقسم الاعلام، يتحدث الانجليزية كأهلها ويجيد الفرنسية كما يجيدها أبناء الحي الاتيني الذي عاش فيه سبع سنوات بباريس ، يحكي عن حنتوب بحب وشقاوة أبناءها المميزين، تستطيع أن تقول أنه جاب نصف العالم لكن لاحب يضاهي حبه الدويم. دكتور الطيب حاج عطية لم يك مؤسس قسم الاعلام بكلية الأداب وأول رئيس له فحسب بل أسس مدرسة فارهة وصارمة في تعاليمها ، كان الحديث اليه شاقاً ومحبباً معاً يسمعك بأنتباه وعناية تسعدك ثم لاثلبث أن تتلبسك حيرة عندما يتحدث فتتساءل هل هو أستاذ للفلسفة أم الاقتصاد أم العلوم السياسية أم القانون؟! كنا نحتار كثيراً نحن طلبته في هذه المعرفة (الموسوعية) وكنا نطمئن أن كل معضلة وسؤال سنجد له حلاً عند دكتور الطيب. عندما كان مدير لمعهد أبحاث السلم بالجامعة كان لديه تقليد لا يخلو من رسالة وهو أن يمنح الفرصة لبعض تلامذته بالعمل معه بقصد اكسابهم الخبرة والانفتاح على مجلات أخرى ذات صلة بالعمل الاعلامي والعمل العام، وكنت ممن منحني الحظ هذه الفرصة قبل أن أستلم شهادتي الجامعية وأجلس لأمتحان القيد الصحفي عملت معه لعامين وهكذا منحتني الحياة حظوة أن أستمع اليه أكثر وأتعرف الى مدرسته المختلفة في الادارة والنظام والعمل الجماعي ثم التحقت بدراسة الماجستير فكان مشرفي على (البحث) ومنه تعرفت على قيمة الصبر وعلى المنهجية والمهنية وصرامة البحث العلمي، كان مكتبه مشرع لتلاميذه ولغيرهم يقدم النصح بأقتدار ويقدم مكتبته لكل سائل معرفة كما كان مكتبه مفتوح لكل السياسيين بأختلاف الوانهم ولسفراء ودبلوماسيين أوربيين كثر كان الجميع يأتي اليه ولا يسعى الى أحد . في المحاضرات كثيراً ماكان يخرج بنا للحديث عن الوضع العام والحياة السياسية ودائماً مايقدم نقد لأحوال البلاد ، نقد مصحوب بالمعرفة وبالحلول، نقد بمبضع جراح ماهر لا يخرجه عن وقار العالم ، وكانت الاسئلة تنهال اليه من الطلاب وتترى منه الاجابات لا يمل ولا يتضجر ، يحكي لنا طرائفه وتجاربه ،حكاياته لاتخلو من رسالة فلا وقت لديه للثرثرة يحكي باحترافية روائي وابتسامة عالم وما أن يفرغ الوقت المخصص للمحاضرة يكتسي وجهه باهتمام زائد فهو دائماً على موعد مع الالتزام . هاتفته قبل رحيله بأقل من ثمانية وأربعين ساعة أطلب رأيه وارشاداته وأنا في غاية الانزعاج من معضلة تخص البحث العلمي ، وسرعان ماوجدت عنده الاجابة والحلول وكعادته يقدم الأفكار في قالب ديمقراطي لا يفرض عليك رأياً، يقدم لك كل الحلول ويوحي اليك أنك من قدم هذه الفكرة وأنها كبيرة ، وكعادته في كل مرة لا ينسى أن يقدم لي نصائحه الكبيرة عن الحياة وأن يدلني على دروب لندن التي خبرها جيداً وأن يذكرني أن الحياة معرفة وأن في الحياة متسع للعلم حتى آخر لحظة. عاش فارعاً وانسحب بهدوء يشبهه ويشبه نقاء روحه ، مضى واقفاً كصفصافة . . ستفتقدك الجامعة .. سنفتقدك نحن طلابك وأبناؤك .. ستفتقدك المعرفة التي انحزت لها وأعطيت سيفتقدك الجميع حتى ابني عمر صديقك الصغير سيفتقد زيارة مكتبك كل مانأتي الى السودان. فلترقد روحك بسلام وليقبلك الله بقدر ماقدمت للمعرفة وبقدر ما أنرت العقول والمدارك.